كانت أنطونيا برينير تعيش حياة رغد في “بفيرلي هيلز” (كاليفورنيا)، لكنّها تركت كلّ شيء وذهبت لتُعين السّجناء في أحد أشهر السّجون في مكسيكو. ثم صارت، فيما بعد، راهبة وعاشت أكثر من ثلاثين عامًا في زنزانة صغيرة بقرب مَن تخدمهم. رقدت في 17 تشرين الأوّل 2013. كانت قد بلغت من العمر 86 سنة.
الأخت آن-ماري ماكسفيلد، إحدى عضوات أخوية خدّام “أود”* للسّاعة الحادية عشرة – الرّهبنة الّتي أسّستها الأم أنطونيا في “تيجوانا” للنّساء المتقدّمات في السّن العازبات والمطلقات والأرامل اللّواتي يشأن خدمة الفقير – قالت إنّ الأم أنطونيا كانت تعاني مرض “الوهن العضلي الوبيل”.
اسم الأم أنطونيا في العالم كان “ماري برينير”. بدأت العمل التطوعيّ مع الفقراء في مكسيكو عام 1960. كانت في ذلك الحين قد تطلّقت مرّتَين وأمًّا لثمانية أولاد. نشطت في العمل الخيري الاجتماعي في كاليفورنيا خلال حياتها الزوجيّة، لكنّ تكرّسها لهذا العمل تكثّف عندما أخذها كاهن إلى سجن “لا ميزا” الحكومي، الّذي كان يضمّ المحكوم عليهم من قتلة ورؤساء عصابات ومغتصبين ومقترفي جرائم أخرى خطرة.
بدأت السّيدة برينير تؤمّن للسّجناء حاجاتهم الأساسية من أسبيرين وبطّانيات ومستلزمات الحمام والنّظّارات الموصوفة طبيًّا. كانت ترتّل في الخدم. ثم حصلت على ترخيص من السّجن لبيع المشروبات الغازية. ومن إيراداته كانت تدفع كفالات لمرتكبي الجرائم الصّغيرة.
يروي السّجناء كيف أنّ الأمّ أنطونيا سارت ذات مرّة وسط مشاجرة في السّجن وكان الرّصاص يتطاير من كلّ ناحية والغاز المسيل للدّموع يملأ الجو. عندما رآها السّجناء، وهي معروفة بجرأتها، توقّف القتال. كانوا يقولون إنّ الابتسامة لم تكن تفارق شفتيها.
في السّنوات الأولى من عملها التطوّعي في مكسيكو، أخذت نذورها بشكلٍ فردي وخاطت ثيابها الرّهبانيّة بنفسها. عندما بلغ أساقفة تيجوانا وسان دييغو بعض أخبار عملها قبلوه بشكلٍ رسميّ كجزء من العمل الرّعائي في الكنيسة.
في سيرة حياتها على الموقع الإلكتروني الخاص بالرّهبنة الّتي أسّستها، أنّها “صارت راهبة عن عمر 50 سنة”.
في الوقت عينه، ٱنتقلت الأم أنطونيا إلى القسم النّسائي في السّجن حيث أقامت في زنزانة مساحتها 3 x 3 أمتار. وكان باستطاعتها، الدّخول والخروج بحريّة، لكنّها كرّست حياتها للعيش في الدّاخل، كسجينة!
قالت مرّة للـ”واشنطن بوست” عام 2002: “يختلف الأمر كثيرًا ما بين العيش مع النّاس وزيارتهم، يجب أن أكون معهم في نصف اللّيل، فلربما طُعِن أحدهم، أو انفجرت الزائدة الدّوديّة لدى آخر أو مات”.
منزل ذويها في بيفرلي هيلز المولّف من 11 غرفة والمطلّ على البحر
الأم أنطونيا في زنزانتها
وُلدت ماري كلارك في 1 كانون الأوّل 1926 في لوس أنجلس وترعرت في بفيرلي هيلز، وهي الطفلة الثّانية من عائلة مؤلّفة من ثلاثة أولاد. أمّها كاترين رقدت وهي حُبلى بطفلها الرّابع. كان أبوها يوسف، مدير مبيعات ناجحًا للأدوات المكتبيّة؛ وكان للعائلة منزلٌ ثانٍ يُطلّ على البحر. تزوّجت ماري في سنّ 18 من عمرها، ورُزقت ثلاثة أولاد، مات أحدهم. لكنّ زواجها هذا لم يدُم طويلاً.
تزوّجت ثانية من “كارل برينير”. دام زواجهما 25 سنة ورُزقت منه خمسة أولاد. وهذا الزّواج، أيضًا، انتهى بطلاق.
في خضمّ صراعها، في زواجها الثّاني، مالت ماري، على نحو متزايد، إلى خدمة الفقير في جنوب كاليفورنيا ومكسيكو. كانت تعمل مع كاهنٍ من لوس أنجلس اسمه “أنطوني براونرز”. رقد هذا الأخير عام 1964 إثر إصابته بالسّرطان. وبعد أكثر من عقدٍ من الزّمن، أصبحت هي راهبة واتخذت ٱسمه تكريمًا لذكره.
حوالي العالم 1970، انتقلت إلى سان دييغو إذ سَهُل عليها السّفر من هناك إلى مكسيكو، في حين كانت لا تزال تشارك زوجها حضانة الأولاد. معظم أولادها كان قد بلغ سنّ الرّشد إلا أنطوني الّذي كان في سنّ المراهقة، فنقلت حضانته إلى أبيه كارل.
في ذلك الحين، كانت ماري في حالٍ يرثى لها، كما صرّحت في مقابلة لها عام 2005 حول كتاب “ملاك السّجن” الّذي وضعه عنها ماري جوردن وكيفين سوليفان. لكنّها كانت مؤمنة أنّها قامت بالخيار الصّائب. قالت: “عندما تعلم في قلبك أنّ أمرًا ما صحيح، وأنّ هذا ما أنت عليه، وأنّ الله يدعوك إلى عملٍ ما، فإنّك تقوم بكلّ التضحيّات الواجب عليك القيام بها في شأنه”.
بقيت ماري على اتصالٍ دائم بأولادها، وكان عدد منهم يزورها في سجن “لا ميزا”. وقد أصبح لديها، الآن، عدد كبير من الأحفاد.
استدعى عمل الأم أنطونيا ثناءً كبيرًا من كلّ أنحاء العالم. من بين من ثمّنوا عملها الرّئيس المكسيكي “فينست فوكس” ورئيس جمهورية أميركا “رونالد ريغين”.
عام 1991، التقت الأم أنطونيا بالأم تيريزا كلكوتا، الّتي كانت قد حازت على جائزة نوبل للسّلام، خلال زيارتها لـ”تيجوانا” في المكسيك.
قالت الأخت آن-ماري، وهي واحدة من أكثر من 24 راهبة في الشركة الّتي أسّستها الأم أنطونيا، إنّ هذه الأخيرة بدأت بتأسيس الرّهبنة منذ أكثر من عشر سنوات بطلبٍ من رؤساء الأبرشيات في تيجوانا. وقد بارك عليها رئيس الأساقفة “رافاييل رومو مونوز”.
قالت الأمّ أنطونيا لمجلّة “ذي بوست”: “تعتمد المتعة على مكان وجودك، على النّاس الّذين يحيطون بك، وعلى الطعام الّذي تتناوله، لكنّ الفرح شيء آخر، فالفرح لا يعتمد على مكان وجودك. أنا أعيش في السّجن ولم يصادفني ولا يوم واحد كنت فيه هابطة نفسيًا خلال خمسة وعشرين عامًا”.
“عرفتُ الانزعاج والغضب والحزن، لكنّي لم أعرف الهبوط النّفسيّ بشكل يائس. لديّ معنى لوجودي!”.
* نسبةً إلى القدّيس الكاثوليكي “يوحنّا أود” الّذي أعلنت قداسته الكنيسة الكاثوليكية عام 1925.
المرجع:
Yardley W. (2013), Antonia Brenner, 86, “Prison Angel” who cared for inmates, International New York Times, October 22, 2013.