يطوي بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي اليوم سنته الأولى على عرش إنطاكيا، بعد انتخابه في 17 كانون الأول 2012 في دير سيدة البلمند خلفا للبطريرك الراحل إغناطيوس الرابع هزيم.
ولعل الأسئلة التي طرحت عليه بعد انتخابه مباشرة، حول مصير المسيحيين في الشرق في ظل الأخطار المحدقة بهم وحول ما يجري في سوريا وإمكانية نقل مقر الكرسي الانطاكي من دمشق الى مكان آخر، أكدت بما لا يقبل الشك أن يوحنا العاشر أتى في الزمن الصعب الذي سيتقرر فيه مستقبل المسيحيين على وقع ما يسمى بثورات الربيع العربي، وأن عليه قيادة السفينة الأرثوذكسية المشرقية بحكمة وحنكة وحذر، لتجنيبها أخطارا لا قدرة لها على تحملها في ظل ما يعصف بالمنطقة من أنواء.
سنة من التحديات الكبرى خاض غمارها البطريرك الـ158 للأرثوذكس، المتخرج من معهد يوحنا الدمشقي اللاهوتي في دير سيدة البلمند، والمتحدر من مدرسة إغناطيوس الرابع، وهو سارع منذ لحظة انتخابه إلى تكريس مبادئ ومسلمات هذه المدرسة لجهة الحفاظ على هوية الكرسي الانطاكي وانتمائه المشرقي ومقره الدمشقي، وثوابته في حمل قضية فلسطين ومعها القدس الشريف، وحماية الوجود المسيحي والتعايش بسلام مع المسلمين وسائر مكونات هذه المنطقة.
لم تترك التطورات الدراماتيكية مجالا لليازجي لأن يركن الى خلوة يدرس فيها بعناية وتأن كل الملفات المتعلقة بشؤون وشجون الأرثوذكس، وتمكنه من رسم خريطة طريق تحدد كيفية معالجتها أو التعاطي معها، فوجد نفسه فجأة أمام تحديات من العيار الثقيل تمثلت باختطاف شقيقه المطران بولس يازجي، ومعه مطران السريان الأرثوذكس يوحنا إبراهيم في حلب.
ومن ثم توالت بتهجير عدد كبير من القرى المسيحية في سوريا، وتهديم وتعطيل الكثير من الكنائس، ودخول «جبهة النصرة» الى معلولا لمرتين والتعرض فيها للأماكن المقدسة، فضلا عن اختطاف راهبات دير ما تقلا، وما بين كل ذلك محاولة «اختراق» الأرض الانطاكية من قبل بطريرك القدس ثيوفيليوس بتعيين مطران على قطر التابعة لرعايا الكرسي الانطاكي، وهو ما اعتبر مخالفة قانونية لا يزال يعمل يازجي على مواجهتها، انطلاقا من أن أي عمل تريد كنائس القدس أو إسطنبول أو الإسكندرية القيام به في المساحة الانطاكية تحتاج الى موافقة مسبقة من المجمع المقدس وعلى رأسه البطريرك اليازجي.
هذه التحديات وغيرها لم تُفقد رأس الكنيسة الانطاكية سلامه الداخلي، فسارع الى رفض كل أشكال التحركات غير المنضبطة التي دعت إليها أصوات متحمسة لحل قضية المطرانين، كونها لا تمت الى شيم الأرثوذكس وتاريخهم بصلة. وهو، بالرغم من كل الضغوطات التي تعرض لها ومورست عليه، عمل على فرض هذا السلام على جميع أبنائه لتهدئة خواطرهم، وحثهم على سلوك طريق الصلاة سبيلا وحيدا للخروج من هذه الأزمات، تاركا لنفسه ولعدد من مطارنة المهجر أمر المعالجات.
لم يترك يازجي باباً إلا وطرقه، ولم يدع دولة لها نفوذ في سوريا إلا واتصل بها وحثها على بذل كل ما لديها من إمكانات من أجل إطلاق سراح المطرانين، ومؤخرا لاطلاق سراح الراهبات، وإن كانت جهوده لم تثمر حتى الآن، فان اليأس لم يتسلل الى نفسه، وهو لا يزال يقوم بمحاولات حثيثة للوصول الى نتائج إيجابية.
لم تثنه هذه الاتصالات عن متابعة رعيته في سوريا، فتحدى المخاطر مرات عدة وانتقل الى بلدات سورية مختلفة، وعمل على التواصل مع أبنائه، وعلى جمع المهجرين من المسيحيين مع إخوانهم المقيمين ضمن نشاطات اجتماعية تعاضدية، وذلك في محاولة لإدخال الطمأنينة الى نفوسهم وتثبيتهم في أرضهم وضمن كنائسهم. وهو انتقل مؤخرا الى سوريا ليكون على تماس مباشر مع المفاوضات الجارية لاطلاق سراح راهبات دير مار تقلا، فألغى زيارة رعوية الى الخليج لتفقد رعيته هناك، كما لم يتسن له الانصراف إلى مهمته المسكونية، بعدما انتخبته الهيئة العامة العاشرة لمجلس الكنائس العالمي في جلستها الأخيرة في الشهر الفائت رئيساً على الكنائس الأرثوذكسية المشاركة في المجلس.
تحصن يازجي في سنة التحديات بالصمت، وفق قاعدة «وتعاونوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، إلا من العظات والكلمات الرسمية التي تدعو الى ثوابت التمسك بالأرض والتعايش والسلام وقبول الآخر ورفض التطرف ونبذ العنف بكل أشكاله.
نأى بطريرك إنطاكيا بنفسه وبطائفته عن الدخول في بركان الأزمة السورية والصراع الدائر بين مكوناتها، فتعاطى مع سوريا كوطن يحتاج الى أبنائه بكل طوائفهم ومذاهبهم ومللهم، رافضا منطق القتال الذي لن ينتهي الى مصلحة أحد، مؤكدا الرغبة «بأن تكون سوريا في حالة سلام يعيش فيها أبناؤها كأخوة في المواطنية وفي الحب والاخلاص لبلدهم».
لم تثن هذه التحديات الاقليمية يوحنا العاشر عن متابعة الوضع الداخلي في لبنان، ففتح أبواب مقره البطريركي في البلمند لكل اللبنانيين على اختلاف توجهاتهم، وحرص على التواصل مع رؤساء الطوائف المسيحية والاسلامية، في محاولة منه لايجاد صيغة عمل مشتركة تحمي لبنان من النزاعات التي تهدد أمنه واستقراره، ومن الفراغ الذي يهدد صيغته وكيانه، إضافة الى متابعته لحقوق الأرثوذكس في الدولة اللبنانية، لا سيما على صعيد دورها وحضورها ومراكزها ووظائفها، وهو عقد لهذه الغاية أكثر من اجتماع لوزراء ونواب الطائفة للتأكيد على «أن الاختلاف في السياسة لا يجوز أن ينعكس سلبا على الحضور الارثوذكسي، وأن عليهم أن يغاروا على طائفتهم التي هي جزء من لبنان».
يقول متابعون لمسيرة اليازجي لـ«السفير»: «هو رجل تميز بحبه لكنيسته، ويعمل جاهدا رغم الصعوبات والتحديات التي وجد بها، ولكن هذا لم يثنه عن التفكير بما يجعل من الكنيسة الارثوذكسية عروسا للمسيح وشاهدة له في مجتمع متعدد، وجعلها موضع لقاء وشجرة يتفيأ الجميع تحت ظلها، لتثبيت سلام الانسان للانسان. وهو يمد يده لكل الناس في كنيسته وفي مجتمعه وفي الكنائس الشقيقة وفي الطوائف الاسلامية، من أجل التعاون على ثوابت نبذ العنف وتعميم فكرة السلام بين الشعوب».
ويضيف هؤلاء: «أمام هذه المفاصل التاريخية التي تمرّ فيها سوريا والمنطقة ككل، وفي ظل ثورات الربيع العربي التي لم تزهر استقرارا واطمئنانا للشعوب حتى الآن، يقف صاحب الغبطة متأملا في خريطة طريق خلاصية مبنية على الرجاء لشعوب تبدو مقهورة وتبحث عن السلام المفقود في زمن القتل والخطف والاخفاء القسري الذي طال رجال الدين العزل والراهبات المسالمات والأيتام، ولم يفرق بين كنيسة أو مسجد».