ثمّة إجماع في الرأي لدى آباء الكنيسة القدّيسين على كون التجارب الثلاث التي انتصر فيها الربّ يسوع على الشيطان (لوقا ٤: ١-١٣)، إنّما تلخّص التجارب كلّها التي يمكن أن يتعرّض لها الإنسان في حياته اليوميّة. لذلك يقول القدّيس لوقا الإنجيليّ في نهاية سرده لحادثة التجربة في البرّيّة: “فلمّا أنهى إبليس جميع ما عنده من تجربة انصرف عنه” (١: ١٣). أمّا هذه التجارب الثلاث فيصفها القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+٣٩٧) بقوله: “إنّنا نتعلّم أنّ للشيطان ثلاثة رماح أساسيّة يتسلّح بها عادةً ليجرح النفس البشريّة: رمح الشراهة، ورمح الكبرياء، ورمح الطمع”.
ويتابع أمبروسيوس شرحه للإنجيل فيقول: “لقد تبيّن أنّ كلّ الخطايا تقريبًا تنبع من الرذائل الثلاث هذه: ما كان الكتاب المقدّس ليقول إنّه أنهى جميع ما عنده من تجربة لو لم تكن هذه الثلاث تحتوي على كلّ مادّة الخطايا. فنهاية التجارب، إذًا، هي نهاية الشهوات، لأنّ أسباب التجارب هي أسباب الشهوات، وأسباب الشهوات هي ملذّات الجسد، وسراب المجد، وجشع السلطة”. ويذهب القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+٤٠٧) المذهب نفسه حين يقول: “إنّ لوقا يقول “جميع” ليشير إلى الرذائل الرئيسة فقط، وكأنّها تتضمّن التجارب الأخرى. وبالفعل، من بين العديد من الرذائل، الخطايا الرئيسة هي: العبوديّة للبطن، والتصرّف لأجل المجد الباطل، والرضوخ للمال”.
القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+٢٠٢) هو أوّل الآباء الذين رأوا في الرواية الإنجيليّة للتجارب نسخةً معكوسة لكتاب التكوين. فهزيمة آدم، الذي استسلم للتجربة، يقابلها انتصار المسيح على الشيطان. وإنّ المعركة التي انتصر فيها كلمة الله الذي صار بشرًا على عدوّ الجنس البشريّ هو في جوهر ما يسمّيه إيريناوس “الخلاص”. فابن الله، بتجسّده، أتى ليأخذ الإنسان بكامله “ليلخّص بطاعته على الخشبة (الصليب) العصيان الذي ارتُكب بوساطة الخشبة”، فأصلح فيه صورة الله الأصليّة. هكذا تكون تجربة المسيح في البرّيّة حدثًا عظيمًا في تاريخ الخلاص.
يكرّر الآباء هذه المقارنة بين المسيح وآدم، منطلقين من التجربة الأولى التي تخصّ إشباع شهوات البطن، فيقولون إنّ المسيح قد انتصر على الشيطان بصومه، في حين هُزم آدم بسبب بطنه وإغراء الثمرة المحرّمة. فالقدّيس الذهبيّ الفم يقول في هذا السياق: “فلكي يرينا المسيح أنّ الحرمان لا يرغم الإنسان الفاضل على أن يقوم بتصرّف لا يليق به، عانى الجوع، ولم يذعن لتوصيات الشيطان، وهذا كي يعلّمنا أنّ علينا ألاّ نطيع الشيطان بأيّ شكل من الأشكال”. وفي الشأن ذاته يقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ (+٤٤٤): “لقد هُزمنا بآدم بتناولنا الطعام، وانتصرنا بالمسيح عن طريق القطاعة”.
يؤكّد القدّيس يوحنّا كاسيانوس (+٤٣٢) أنّ التجارب الثلاث التي انتصر عليها المسيح هي ذاتها التجارب التي سقط فيها آدم، مبيّنًا أنّ كلمات الشيطان في الإنجيل ليست سوى صدى لكلمات الحيّة في العهد القديم، فيقول: “الشراهة هي أنّ آدم تجاسر على أن يأكل من الثمرة المحرّمة. ونجد تجربة المجد الباطل في هذه الكلمات: تنفتح أعينكما (تكوين ٣:٥)، وتجربة الطمع في هذه: تصيران كآلهة تعرفان الخير والشرّ (تكوين٣: ٥). ولكنّنا نقرأ أنّ الربّ قد جُرّب أيضًا بالرذائل الثلاث نفسها: بالشراهة، عندما يقول له الشيطان: مُرْ أن تصير هذه الحجارة أرغفة (متّى ٤: ٣)؛ بالمجد الباطل: إن كنتَ ابن الله فألقِ بنفسك إلى الأسفل (متّى٤: ٦)؛ بالطمع، عندما أراه إبليس كلّ ممالك العالم ومجدها، وصرخ قائلاً: أعطيك هذا كلّه إن جثوتَ لي ساجدًا (متّى٤: ٩)”.
انتصر المسيح على الشيطان كي يعيد الإنسان إلى حالته الأصليّة كما خلقه الله على صورته ومثاله. فأمبروسيوس يقول: “لقد جاع الربّ في البرّيّة لكي يكفّر بصومه عن خيانة الإنسان الأوّل بتذوّقه الطعام. إنّ آدم ضرّنا إذ أشبع جوعه إلى معرفة الخير والشرّ، لكنّ الربّ تحمّل الجوع لخيرنا… أتى آدم من أرض عذراء، ووُلد المسيح من العذراء؛ ذاك كان على صورة الله، والمسيح هو صورة الله… طُرد آدم من الفردوس إلى البرّيّة، وعاد آدم الثاني (المسيح) من البرّيّة إلى الفردوس… آدم في البرّيّة، وفي البرّيّة المسيح: لأنّه يعرف أين يجد هذا المحكوم عليه (آدم) ليزيل ضياعه ويُرجعه إلى الفردوس”.
يتّفق الآباء على القول بأنّنا قادرون على قهر الشيطان، إذ يكفي أن تتمّ مقاومته وردعه كما فعل المسيح، لكي يتخلّى عن هجومه، فعلينا ألاّ نستسلم لليأس أمام التجربة. ومع ذلك، علينا أن نكون حذرين ومتيقّظين، ذلك أنّ العدوّ سيرجع. ونحن مدعوّون إلى أن نستعمل الأسلحة ذاتها التي استعملها الربّ يسوع، وأن نستند إلى الكتاب المقدّس، وأن نثبت على الصبر والتواضع، وأن نتجنّب كلّ أنواع التهوّر؛ فليس من شيء أخطر من الاعتماد على القوّة الذاتيّة أو تعريض النفس للتجربة. وتفيدنا رواية تجربة المسيح في البرّيّة إلى وسائل محاربتها ومجابهتها والتغلّب عليها، وبخاصّة بالصوم. سلوك المسيح في القضاء على التجربة مثال ينبغي لنا كافّة أن نقتدي به كي نستحقّ أن نكون مسيحيّين حقًّا.