ليتك تعلم!

mjoa Monday December 23, 2013 116

ليست الخطيئة، في ذاتها، بشيء! سلوكنا فيها وتمسّكنا بها هو ما يجعلها جحيمًا لنا! كلّنا، في كلّ حال، وبلا استثناء، موبوء بها! عالمنا عالم مساكين! كلّنا، روحيًّا، برص! الجميع أخطأوا! ولكنْ، بإزاء رحمة الله، ليست خطايانا بأكثر من حفنةِ رمل تُلقى في أوقيانوس محبّة الله، لتغور، في الأعماق، كأنّها لم تكن! على أنّنا بحاجة، من قِبلنا، لتفعلَ نعمة الله فينا، إلى روح توبة!

     بذارُ الخطيئة منثور في نفوسنا، في أجسادنا، في بيئاتنا! كلُّ إنسان مظلوم إذ بالخطيئة تلده أمّه! وبما هو مظلوم به يَظلم الآخرين، واعيًا أو غير واع! كلٌّ أداةُ ظلم، بلا استثناء، ولا يستطيع إلاّ أن يكون كذلك! أنّى للإنسان أن يخرج من جِلده وبيئته؟! فقط رحمة الله ترفع الظّلم! وهذه لا يقتنيها مَن بِلا خطيئة، هذا غير صحيح، لأنّه ليس أحدٌ بلا خطيئة، بل مَن تاب، بتواتر، عن خطيئته! الخطيئة راسخة فينا حتّى العَظم؛ فقط بالتّوبة المتواترة نتصدّى لتأثيرها فينا حتّى تلاشيها! وكلٌّ معطًى أن يتوب!

     لا! لا تخوِّلك التّوبة أن تكون بلا خطيئة! التّوبة لا تُعفيك من الخطيئة بالكلّيّة! لا تعطيك القدرة على ألاّ تخطئ! فقط تقيمك في حال داخليّة تجعلك ترفض الخطيئة، من كلّ القلب، وتقاومها، من كلّ القدرة! تنجح أو لا تنجح؟ هذا ليس رهنًا بك وحدك! أنت تبذل ما في وسعك، بكلّ صدق وأمانة، وربُّك المعطي! بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا! فإن قويتَ على الخطيئة كان هذا منه، بتعاونك، وكذا منه إن لم تَقْوَ عليها! أجل!

إصبع ربِّك في الحالَين معًا! ليس التّحرّر الكامل من الخطيئة هو المبتغى في المسير، ولا يمكن أن يكون، إلاّ في نهاية المطاف! صحيح أنّ المشتهى هو أن تصير إلى اللاّخطيئة، ولكنْ، هذا لا يمكن أن يتأتّى لا في أوّل الطّريق ولا في منتصفها بل في آخرها كولادة اكتملت! في انتظار أن تستكمل المسير، يتركك ربّك، عن قصد حسن، تقع حينًا وتنهض حينًا آخر! لماذا؟ لأنّه لا ينظر إلى الخطيئة بحدّ ذاتها، كفعل، بل إلى ما تنبعث منه! لا تهمّ ربَّك ظواهرُ المرض بقدر ما تهمّه أسباب المرض وجذوره! عنده أنّ معالجة الخطيئة تكون بمعالجة أساسات الخطيئة، أي أهوائها! هو الطّبيب المشخِّص والمعالِج بامتياز لا المزارع المشذِّب فقط! طبعًا، لا يُسَرُّ الله بترك الإنسان يتمرَّغ في الخطيئة، هذا وجع لديه، لكنّه يجعل الوقوع أو عدم الوقوع في الخطيئة مجالاً للبنيان الدّاخليّ، ومن ثمّ لشفاء جذور النّفس من هوى الخطيئة متى اكتملت المعالجة!

     في إطار التّوبة، إن قاومتَ الخطيئة وأفلحتَ يكون ذلك لتثبيتك في الجهاد أنّك إن تعبتَ جنيتَ، وأنّه لا جنى من دون تعب، إلى أن تشملك نعمةُ ربّك. وهذا يأتي في الأخير كما قلنا! إذًا، عليك، في كلّ حين، أن تبقى يقظًا، وأن تتعبَ، في كلّ آن! هذا ما قالته الأمثال: “العامل بيدٍ رخوة يفتقر، أمّا يد المجتهدين فتُغني” (10: 4)! أمّا إن قاومتَ الخطيئةَ ولمَّا تُفْلحْ يكون ذلك لأنّك لم تقاوم باستقامة! كيف تكون المقاومة بلا استقامة؟ تكون كذلك متى قاوم المجاهدُ بغرور، من دون تسليم واتّكال كاملَين على الله! فإذا ما تركه ربُّه يسقط فِليَجعلَه ينهض من جديد، بإصرار، ولكنْ بتواضع قلب! من دون اتّضاع، أمام الله، نعمتُه لا تفعل! الزّيتون يطحنه حجر الرّحى حتّى يَخرج منه كلُّ الزّيت!

     على هذا، ليست الخطيئة هي المأساة الكبرى! حتّى الأخير، يبقى الإنسان عرضة للخطيئة، لا سيّما في الفكر! المأساة الألدّ أن يكون الخاطئ معاندًا في خطيئته، أن يلازم خطيئته، أن يبقى مستحليًا لها، ملتصقًا بها، مجترًّا لها، مُخفيًا إيّاها في نفسه، سالكًا، بإصرار، في إيهام تبرير ذاته في شأنها، ممسِكًا عن التّوبة، أو مؤجِّلاً لها بتواتر! هذا ينعصر قلبُ الله عليه، ويُجبرُه، بعناد، على تسليم المعاند للشّدّة والألم لخلاصه! بلى، لأنّ الرّبّ الإله يروم خلاص العالمين، يُسلمهم، متى تقسَّوا، للضّيق! يُمهلهم ولا يُهْمِلهم! محبّته الّتي لا نقتبلها بإرادتنا، يعمل على جعلنا نقتبلها رغمًا عنّا بطرق هو يعرفها، ولا نعرفها! وما لا ينفتح كيانُنا عليه بالحسنى، يعمل على جعلنا نفتح كياننا عليه بالوجع، مرغَمين! بالألم المحيي!

     إرادة الله خلاصُنا. ليس فرح في السّماء يضاهي الفرح بخاطئ واحد يتوب! ولا أسًى يضاهي الأسى على الخاطئ المعاند إلى أن يرجع فيحيا!

     هكذا الأمر مفترَض به أن يكون بين الّذين يحبّون الله! ويل لمَن يشتهي الأذيّة لأحد لأنّه مستأهِل على ما فعل! وويل فوق ويل لمَن يدعو اللهَ، في قلبه، لأن ينال من أحد، ولو كان شرِّيرًا! هذه لعنة لا على مَن يقع عليه الويل، بل على مَن يصدر منه! احملوا بعضكم أثقال بعض! أخوك، إنْ شرد، بحاجة إلى رحمة مزدوجة لا إلى لعنة، إلى صلاة صارخة، لا إلى غضب مسعور باسم الله! أخوك، إنْ ضلَّ، يُفترض به أن يكون لك، في حشاك، وجعًا لا يُرفع عنك إلى أن يستردّه ربّك إلى جادّة الصّواب! هكذا يرتاح كلٌّ من أثقاله، متى أراح أخاه لو أمكن! وهذه هي العلامة الحقّ أنّ المسيح معنا وفيما بيننا!

     لكنْ، ما أقوله صليب! الآخر موجِع حتّى أمخاخ العظْم، وكلٌّ يشتهي الهرب منه، من الآخر لأنّه وَجَع! العلاقات الطّفيفة، دائمًا، أحَبُّ إلى قلب الخاطئ، قلبي وقلبِك! حياتنا في العالم سلسلة هروب كيانيّ أحدِنا من الآخر لأنّه أيسر! ليس مَن يريد أن يتألّم، لذا المحبّة نقد نادر لأنّها مغمَّسة بالألم! المشكلة ليست في خطيئة أخي بل في خطيئتي أنا! الآخر موجِع لا لأنّه خاطئ – هذا واقعي أنا أيضًا – بل لأنّ خطيئتي راسخة فيّ حتّى أمخاخ العَظْم! الآخر مرآتي وحالُه حالي! المحبّة توجع لأنّها تستدعي استئصال الخطيئة! المحبّة تُكلف لكنّها تشفي! لا حلّ آخر! الموت أجرة الخطيئة، أمّا المحبّة فأقوى من الموت، ولا تخطٍّ للموت إلاّ بالمحبّة!

     وأكثر ما تتجلّى المحبّة الإلهيّة، كمحبّة، في حياة الإنسان، بإزاء فئتين من النّاس: الغرباء والأعداء! إبراهيم صار خليل الله وأبَ المؤمنين لأنّ خلاّنه كانوا الغرباء! الملائكة الثّلاثة أتوه كغرباء! الغريب، قال سِفر اللاّويّين، تحبّه كنفسك (19: 34)! أبرز الفضائل، قديمًا، إضافة الغرباء! مسيح الرّبّ أتى كغريب! الغريب كان، عند أتقياء المؤمنين، كَمِن مسيح الرّبّ! بشريًّا، الغريب تهديد!

تقول لي نفسي بإزائه: أرضي وبيتي في خطر، لقمتي في خطر، سلامتي في خطر، حاضري في خطر، مستقبلي في خطر! الغريب صليب لي طالما أنا مقيم في أنانيّتي، فردًا أو جماعة! مَن تراه يحسب أنّ الغريب برَكة؟! هذا، اليوم، كلام مجانين! ولكنْ، هنا، تمامًا، التّحدّي! اخرُج من أرض أنانيّتك، كإبراهيم، لما ترك حاران! بات كأنّه شريد في الأرض إلى أن دخل أرض الميعاد؛ كذا مَن يخرج من أرض أنانيّته، قِبلتُه أورشليم العلويّة! الأرض في عينيه إيقونة السّماء! المبتغى هناك! كلّنا غريب إلى أن يصل إلى هناك! ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية! لذا الطّوبى لما يحيا في الآتي منذ الآن! ليس التّراب مرتجانا! التّراب يضمّ عظامنا! علامة الموت إن صدق! نتشوَّف إلى سماء جديدة وأرض جديدة! مسكنِ الله مع النّاس! والموتُ لا يكون في ما بعد (رؤيا 21)!

     والأعداء، أيضًا، مطارحُ محبّةِ الله بامتياز لدينا! عدوّي صار حبيبي! أحبّوا أعداءكم! صليب أكبر! جنون أشرس! مَن أُحبّه لا يعود، بعدُ، عدوّي! خطيئتي عدوّي، فإن أحببتُ انتفت خطيئتي، وما عاد أحدٌ عدويّ! ليس عدوّي، في الحقيقة، مَن يتهدّدني! خطيئتي هي الّتي تتهدّدني! وعدوّي أصنّفه عدوّي لأنّ خطيئتي هي الّتي تعاديه! تجرّني إلى صراع ليس منّي! أخي برسم القربى لا برسم العداوة! بالمحبّة أجعله قريبي! أتغيّر نحوه فأعطيه أعظم الفرصة لكي يتغيّر نحوي، ليصير إنسانًا، بالمحبّة الّتي نتعاطاها فيما بيننا! المسيح معنا وفيما بيننا، كان وكائن ويكون!

     ليست المأساة أنّ الغرباء يضنونني بل أنّ غربتي عن المحبّة تغرّبني عن النّاس! في طاقتي أن أَلِدَ، أمام الله والنّاس، أقرباء لي، وفي طاقتي أن ألد غرباء ملاعين! والأمر عينه للأعداء!

     ليتك تعلم أنّ ميلاد مسيح الرّبّ، اليوم، يستدعيك لأن تكون له شريكًا! هو تغرّبَ في مغارة، لكي تتغرّب أنت على صليب الوداد! الإله يملأ المغارة والصّليب يؤتي الفرح!

     وحدها التّوبة تصنع الجديد! تَلِدُ من جديد!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share