كلمة غبطة البطريرك يوحنا العاشر في عيد الميلاد المجيد 2013

mjoa Wednesday December 25, 2013 96

“رنّم، أيا آدم، واسجد مسبحاً
من أتى للقياك؛ لقد ظهر لك، بينما كنت تنسحبُ
لكيما ترى وتتلمس وتستقبل
من خُفْته يوم انطلَتْ عليك الخديعة،
ومن لمحبته لك صار مثلك؛
لقد انحدر إلى الأرض ليرفعك إلى العلى،
صار عرضة الموت كي تصبح أنت إلهاً
وتتسربلَ من جديد كرامةَ غابر الأزمان؛
لقد أراد أن يفتح عدن من جديد، لذا قطن الناصرة.
لأجل ذلك ترنّم، أيا إنسان، وسرَّ مسبحاً
الذي ظهر منيراً الكل”.

بهذه الكلمات الرائعة اختصرت يراع رومانوس المرنم، الحمصي المنشأ، هذا الحدث الخلاصي المعجز. وبهذه المعاني السامية تختصر كنيسة أنطاكية التي أعطت رومانوس وغيره من القديسين كل لاهوت التجسد، وتضع في قلوب مؤمنيها طفل المذود يسوع، زوادة محبةٍ وسلامٍ وكنز طمأنينةٍ وذخر عزاءٍ للقلوب الملتاعة وللنفوس التي تنشد نور الرب في عتمة هذا الدهر ودياجيره. كما تضع أيضاً أمام ناظريهم مثال العذراء مريم، المجبولة بالتواضع والخفر والمعجونة بخميرة الصلاة، ابنةِ طينتنا الفانية وفخر جبلتنا الترابية، التي أدفأت ذلك الصغير وأرضعته وغذته وقدمته للبشرية نبع حنانٍ لا ينضب ولجةَ رحمةٍ لا يُسبر غورها.

في هذا اليوم تعيّد البشرية للقياها بباريها. هي تعيد لذاك الذي تنازل وانحدر من علياء مجده ليُصعد الإنسان إلى أعلى مدارك المجد. تعيد لأنها أبصرت قاطن السموات متخذاً جبلة البشر ومتنازلاً إلى ضعتها ومفترشاً في مغارة بيت لحم مغارة قلبِ كلٍّ منا ليجعل منا مواطني السماء. في هذا اليوم ترنو كنيسة الناصري إلى ذلك الرضيع المستدفئ في جنبات المغارة وتبحث مع المجوس ملوك المشرق عن رجاء الدنيا الذي ولد في بيت لحم. وفي مثل هذا اليوم تصطف بيعة المسيح جوقاً واحداً مع الجوق الملائكي وترنم: “المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة”. وفي هذا اليوم أيضاً تلقي الإنسانية عن كاهلها هموم هذه الدنيا وتتأمل بريق الرجاء الساطع من مقلتي الطفل يسوع، وتناجيه ويناجيها وكأني به يهمس في أذنِ كلٍّ منا قائلاً:
“ماذا تريد بعد أيها الإنسان حبيبي، لأجلك ولأجل خلاصك، لم أترك باباً إلا وطرقته، لقد وافيت إلى الأرض، متخذاً جبلتك وحالاً في الحشا كأحد الأطفال، لم أكن طفلاً موسراً بل فقيراً اغتنى بحب أمه وناسه. لم أؤثر قصور الملوك ولم أرغب بالبرفير الملكي، بل فضلت سكنى المغارة وآثرت حشا البتول الطاهرة على أخدار السلاطين والآرائك الناعمة. لم أنءُ بنفسي عن قلاقل هذا الدهر. ولم أكن يوماً منزهاً عن الضيق والبلية، كما يطلب كثيرون، بل اصطبرت على ضيق هذه الدنيا وهربت خوفاً من هيرودس.

جالست الخطأة والزناة وخالطت الفقير كما الموسر وتحملت الصلب والموت لأقيمك من براثن السقطة وأعود وإياك جليس حضن الآب السماوي. لقد اعتليت العود الخلاصي وافترشت الرمس لكي أنقذك من آثار أكلة العود فتفترشَ الفردوس المفقود تيهاً وغروراً. قد تقول لي، إني لم أرك فسامح ضعف إيماني، أو إنك جئت قبل ألفي عام، أو أنك لم تنظر يوماً إلى ضيق الناس وتتدخل في حياتهم لخيرهم، بل أنت في عُلاك ونحن في دنيانا، لكني أقول لك: لا تنظر إلى الأعلى لترى الرب بل انظر في داخلك وفي قرارتك واكنس من قلبك غبار التواني فتراني أسطع من الشمس، وانزع من نفسك وحول الأهواء وتسلّح بالصبر فتلتمع أمامك صورة ابن بيت لحم. أنا لم أجئ منذ ألفي عام فحسب لأن مقاييس الزمن عندي ليست كما عندك. وافيتك منذ ألفي عام ووافيتك وأوافيك دوماً في الذبيحة الإلهية التي أضمك فيها مع من معك في هذه الدنيا ومع من سبقك إلى صدري. أنا لا أدخل في حياة الناس عنوةً لكني أطرق على الباب، ودقاتي يسمعها من يخفف عن مسمعيه أمواج هذا العالم المتلاطم، يسمعها ويستسيغها من رأى في هذه الدنيا قارب خلاصٍ إلى الدار الخالدة لا غايةً ومبتغى بحد ذاتها. يسمعها ويفهمها من ردد وحفظ كلام تلميذي بطرس:”يا رب إلى أين نذهب وكلام الحياة الأبدية عنك”.

أيها الطفل الإلهي، يامن افتقد ضعتنا وزار ديار المشرق هذه قبل ألفي عام، نسألك الرأفة بهذا المشرق وإخماد صوت القلاقل فيه. نسألك الرأفة بعالمك وزرع روح السلام في قلوب من امتلكوا قرار الحرب والسلم فيه.

نسألك الشفقة بسوريا وبث روح السلام فيها. نسألك بدموع الطفولة التي قصفت مدارسها في دمشق أن تحمي أطفال سوريا والعالم. نسألك بدموع الأبرياء أن ترد الأذى عن دمشق وجوارها وأن تكتنف أبناءنا في حلب بظل جناحيك. نرجوك بصلوات راهبات مار تقلا أن تسربل معلولا وكل مقدساتنا بستر عنايتك وأن تعيد إلينا الأم بيلاجيا والراهبات واليتامى سالماتٍ. نسألك بشفاعة إليان الحمصي ورومانوس المرنم أن تزين مسقط رأسهما، حمص وجوارها، برواء حضورك وأن تعيد إليها أهلاً تشردوا. نسألك ربي أن تحتضن أبناء حلب وأن تعيد إليهم وإلينا مطارنتهم، يوحنا وبولس والكهنة وكل المخطوفين. نسألك أن تضع عزاءك الإلهي في قلوب أبناء جزيرتنا السورية مهد آبائنا السريان. افتقد يا الله أهلنا المشردين في اللاذقية، في الساحل وحماه وإدلب والسويداء وأريافها وقونا لنبلسم جراح الجميع بقوة جراحك. اكتنف أيا يسوعاه وادينا المبارك واستر أبناءه بستر حماية جاورجيوس اللابس الظفر. نسألك الشفقة بأرجاء سوريا، كل سوريا وبأبنائها، مسلمين ومسيحيين، وإخماد روح القلاقل وبث روح الحوار.

بارك اللهم لبنان الغالي ورسّخ في ربوعه وفي نفوس أبنائه روح الوئام والتلاقي. زد عن أرزه وبارك كل مسعىً فيه للتلاقي. وافتقد بيروت وطرابلس بنفحة سلامك. واغرس في نفوس اللبنانيين جميعاً روح الحوار والتلاقي. وضع في قلوب أبنائه خصلة التعلم من الماضي وقوة الرجاء بالمستقبل، ليبقى لبنان، من بحره إلى جباله ومن شماله إلى جنوبه، موئل التلاقي والحوار. حصّن يارب بلد الأرز الشامخ وازرع في قلوب أبنائه مبادئ المواطنة وقبول الاخر والعيش المشترك.

بارك يارب أبناءنا جميعاً في الوطن وبلاد الانتشار وأهلهم أن يكونوا دائماً شهوداً حقانيين لاسمك القدوس.

كفّ يارب عن ديارنا يد الإرهاب الآثم وأعد إلى كل ربوعنا رونق وهدوءَ الماضي وفقّه الجميع أن قطرة دم إنسانٍ واحد، تسيل هنا وهنالك، أقدس وأغلى من شعارات العالم كله. امسح يارب دموع الحزانى وبلسم جراح الأمهات وضمّ نفوس راقدينا إلى صدر رأفتك الإلهية، لنرتل لك مع ناظم التسابيح؛

“المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، الذي أثابنا به حضورك يامخلصنا، تباركت وتمجدت أبد الدهور آمين”.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share