يتبع يوحنّا، في مطلع إنجيله، خطّ الإنجيليّين الذين سبقوه (متّى، مرقس ولوقا) بتأكيده أنّ حياة يسوع العلنيّة قد بدأت بشهادة يوحنّا المعمدان الذي جاء “شاهدًا ليشهد للنور” (١: ٦و٧).
إذا قرأنا إنجيل يوحنّا (والإنجيليّين الآخرين)، نعلم أنّ هذه الشهادة إنّما تمّت في المحيط الذي ظهر يوحنّا المعمدان فيه تاريخيًّا، أي أمام العالم اليهوديّ. ولا تسمح لنا الأناجيل بأن نسأل: لِمَ؟ إذ ترينا رسالة المعمدان تجيب عن شوق التاريخ: المسيّا قد أتى. وهذا نأخذ عنه، مثلاً هنا، حوارًا، يشبه الاستجواب، أجراه مع المعمدان بعضُ كهنة ولاويّين أرسلهم اليهود من أورشليم. فهؤلاء أتوا إلى النبيّ، وسألوه: “مَنْ أنت؟”. فاعترف علنًا: “لستُ المسيح”. سألوه من جديد: “مَنْ أنت إذًا؟ أأنت إيليّا؟”، أي الذي ظُنّ أنّه سيظهر قَبْلَ مجيء المسيح (أنظر: ملاخي ٣: ٢٣ و٢٤). قال: “لستُ إيّاه”، أي نفى أنّه إيليّا من دون أن يغمض عن أنّ تكليفه أن يقوم بعمله (أنظر: لوقا ١: ١٧). تابعوا: “أأنت النبيّ؟”، أي الذي تنبّأ عنه موسى (تثنية الاشتراع ١٨: ١٥-١٨). أجاب: “لا!”. فقالوا له: “مَنْ أنت، فنحمل الجواب إلى الذين أرسلونا؟ ماذا تقول في نفسك؟”. قال: “أنا صوت منادٍ في البرّيّة / قوّموا طريق الربّ / كما قال النبيّ أشعيا” (٤٠: ٣). ثمّ تابعوا استجوابه. قالوا: “إذا لم تكن المسيح ولا إيليّا ولا النبيّ، فَلِمَ تعمِّد إذًا؟”. أجابهم: “أنا أعمِّد في الماء، وبينكم مَنْ لا تعرفونه، ذاك الآتي بعدي، مَنْ لستُ أهلاً لأن أفكّ رباط حذائه” (يوحنّا ١: ١٩-٢٧).
يكشف هذا الحوار شهادة المعمدان، وتاليًا مصير المسيح الذي أتى يوحنّا يشهد له. فـ”بينكم مَنْ لا تعرفونه”، تشبه: “جاء إلى بيته، فما قَبِلَهُ أهلُ بيته” (يوحنّا ١: ١١)، أي تبيّن أنّهم لا يريدون أن يعرفوه. ثمّ هذه إطلالة على أنّ المسيح سيحطّم أحلام اليهود (الذين يريدون مسيّا يحكّمهم في الأرض)، ليبني ملكوته السماويّ على أنّ كلّ الذين سيؤمنون باسمه سيمكّنهم “من أن يصيروا أبناء الله” (١: ١٢).
ككلّ رابّي (معلِّم)، كان للمعمدان تلاميذه، أي أشخاص اختاروا أن يتبعوه، ويتتلمذوا عليه. وكشف الإنجيليّ الرابع أنّ المعمدان لم يخفِ شهادته عن تلاميذه، بل نطقها أمامهم بِبُعْدٍ جديدٍ لم يستحقّ الذين استجوبوه أن يسمعوه. وهذه أبرزها الإنجيليّ بتبيانه أنّ المعمدان، فيما رأى يسوع سائرًا، دفع مَنْ كانوا تلاميذه إلى أن يحقّقوا مشتهى الأجيال بالجري وراءه. فـ”هوذا هو حمل الله” (١: ٣٦)، قال لهم. هل فهموا أنّ هذا هو حمل الفصح الجديد الذي سيخلّص العالم؟ كلّ ما يبيّنه الإنجيليّ أنّهم أطاعوا النبيّ، وتبعوا السائر توًّا وكلّيًّا. ولكنّنا، إذا أتينا من آخر سِفر يوحنّا، فلن نحرم فهمَ أنّ “حمل الله”، أي مَنْ رآه المعمدان سائرًا، إنّما تمّ ذبحه على الصليب في الوقت الذي بدأ اليهود يذبحون الحملان لعيد الفصح.
ما أخذناه من فم المعمدان في حواره مع اليهود، يحوي استشهادًا بنبوءة أشعيا (٤٠: ٣). فـ”قوّموا طريق الربّ”، قال أشعيا بينما كان اليهود، منفيّين في بابل، يحلمون بالعودة إلى أرضهم. كان سامعو يوحنّا يعتقدون جميعهم أنّ هذه النبوءة قد تحقّقت (فَهُمْ في أرضهم). وصدعهم بأنّ عودتهم لم تتمّ فعليًّا، بل ظاهريًّا. أعلن أنّ ما قاله أشعيا انتظر تحقيقه الشخص الآتي الذي أنا أنادي أمامه. فالآتي، أي المسيح الربّ، هو مَنْ رأى أشعيا أنّه، هو هو، طريق العودة والوطن في آن. أي قال لهم: “أنتم، واقعيًّا، ما زلتم منفيّين. ها أنا قد أُرسلتُ، لأعدّ طريق العودة الحقيقيّة إلى الوطن الحقيقيّ”. أي قال: “ليست البرّيّة، التي سلكتموها قديمًا، هي التي قصدها أشعيا، بل هي مناداتي إلى أن تتوبوا”. وهذا يظهر أنّ يوحنّا قد حدّد، بما قاله، رسالته الخاصّة، أي أنّه “السابق”، كما تسمّيه كنيستنا الأرثوذكسيّة.
طبعًا، لا يخفي السياق المذكور أنّ شهادة المعمدان كانت فضيحةً لليهود كشفت غيّهم. رفضوه ومَن أتى “يسير أمامه”. هذا هو العمى الذي تكلّم عليه يوحنّا الإنجيليّ نفسه، في موقع آخر، بقوله: “لم يستطيعوا (أي اليهود) أن يؤمنوا، لأنّ أشعيا قال أيضًا: أعمى عيونهم وقسّى قلوبهم / لئلاّ يبصروا بعيونهم / ويفهموا بقلوبهم / ويرجعوا فأشفيهم” (١٢: ٣٩ و٤٠؛ قابل مع أشعيا ٦: ٩). أمّا إذا استرجعنا أنّ الذين استجوبوه قد أتوه من مدينة أورشليم، التي فيها تمّ أخذ قرار قتل جميع الأنبياء، فيتبيّن لنا أنّ البداءة والنهاية، في الإنجيل الرابع، صنْوان. ففي الأخير، جاء المعمدان، ليشهد للحقّ الذي فضّل اليهود كيانهم المهترئ عليه. بكلام واحد، ما دوّنه الإنجيليّ يوحنّا يبيّن أنّ الجماعة اليهوديّة لم ترفض شهادةً بشريّة، بل التي أخصبها الروح الذي رآه المعمدان مستقرًّا على يسوع في الأردنّ (١: ٣٣).
جاء المعمدان، “شاهدًا ليشهد للنور / فيؤمن عن شهادته جميع الناس”. قوّة هذه الشهادة دفعت يوحنّا الإنجيليّ إلى أن يوضح: “لم يكن هو النور” (١: ٨). هذا لا يضع المعمدان في موقعه البشريّ فحسب، فيردّ كلّ إعلاء غريب أريد أن يقدّمه على إلهه، بل يظهر حقّ شهادته الناصعة أيضًا. لقد أراد الإنجيليّ أن يؤمن “جميع الناس” بِمَنْ يشهد له يوحنّا المعمدان. هذا رجاء العهد الجديد: أن يأتي العالم كلّه إلى يسوع، “النور الحقّ / الذي ينير كلّ إنسان” (١: ٩). وإذا تذكّرنا أنّ المعمدان أمر تلاميذه بأن يتبعوا الربّ وفعلوا توًّا وكلّيًّا، فليس لنا، مطيعين الأنبياء، سوى أن نأتي من فمه الذي ما زال يصرخ فينا: أن “اتبعوا يسوع، لتصلوا إلى الله الآب. هذا هو، حقًّا، طريق خلاصكم الوحيد” (يوحنّا ١٤: ٦).