الغطاسيّة

mjoa Tuesday January 7, 2014 121

تُحّددُ الكنيسةُ لأبنائِها محطّاتٍ أساسيّةً في حياتهم الإيمانيّة، تُبْرِزُ من خلالها أوجهاً متعدَّدةً من مضامينِ إيمانها وعقائدِها. وقد سُمِّيت هذه المحطّاتُ أعيادًا. فالأعيادُ ليستْ فقط ذكرى لحوادثَ من حياة يسوعَ والقدّيسين، تُعْرَضُ أمامَنا لنتذكَّرَها فحسب، بل هي تأكيدٌ لاِستمراريّةِ مفاعيلِ هذه الحوادثِ التي أنتجتْ وتُنتجُ للعالم خلاصًا وتقديسًا. الأعيادُ دعوةٌ إلى عيشِ حقيقةِ مضمون هذا العيد من خلال الجهاد والتنقية والاِستنارة، بُغيةَ التزوُّدِ مِن نِعَمِ الرُّوحِ القُدُسِ النابعةِ مِن هذا الحضور الإلهيِّ في العالم. جوهرُ الأعيادِ في الكنيسة، أصلاً، يُستقى مِن هذا الحضورِ الإلهيّ في الزمنِ والتاريخ. سَعَتِ الكنيسةُ، دَومًا، إلى تثبيتِ هذه الأعياد حِسِّيًّا في حياة مؤمنيها عن طريقِ الإيقوناتِ والشعر والموسيقى والطقوسِ والعادات الشعبيّةِ والطعام والحلوى وغيرها، لتؤكّدَ لهم إمكانيّة عيش حقائقِ هذه الأعياد حتّى في تفاصيل حياتهم اليوميّة. فلا يبقى قطاعٌ من قطاعات حياةِ الإنسان غريباً عن حضور الله وحضور روحه القدّوس.


من هنا جاءَ، خلال فترة عيد الظهور الإلهيّ، طقسُ تقديسِ الماء الكبير، وتقديسِ المنازل والممتلكات به. أقولُ طقساً وليس عادةً. يَشملُ هذا الطقسُ خدمة ما يُسمَّى بتقديسِ الماءِ الكبير التي تقامُ في الكنيسةِ إضافةً إلى خدمة تقديس المنازل والممتلكات التي تمتّد من الكنيسة، بعد تقديسِ المؤمنين فيها ونضحِهم بالماءِ المقدّس، إلى تقديسِ منازلهم. قد يخطرُ ببالِ البعض أن يَعتبرَ ما يُسمّى بـ “الغطاسيّة” عادةً. نرجو أن يُصحَّحَ هذا الاِعتبارُ وأن ندعوها “طقساً كنسيًّا” أو بالأحرى خدمةً أسراريّةً، لأنّها امتدادٌ لطقس أو سِرِّ تقديس الماء الكبير. غريبٌ عن تراثِنا الأرثوذكسيِّ القديمِ حصرُ أسرارِ الكنيسةِ بسبعة، كما اعتَدْنا أن نُعَلِّمَ خطأً. فكلُّ تَلاقٍ بين الله وبيننا هو سرٌّ. روعةُ هذا السرِّ الكنسيِّ، الذي يُقامُ خلال عيد الظهورِ الإلهيّ، أنّه يتخطّى جدرانَ المعبدِ ليحوِّلَ البيئة كلَّها إلى معبدٍ كونيّ يُعبدُ فيه اللهُ بالروح والحقِّ، وتتقدّسُ فيه كلُّ العناصر. إنّه يجسّدُ، حسيًّا، مفاعيل ظهورِ الله بالجسد بينَنا، فلا يبقى مَرئيٌّ أو غيرُ مَرِئيٍّ غريباً عن فعل التقديس الإلهيّ. حتّى البهائم والمحاصيلُ والعرباتُ كلّها تتقدّسُ. تتقدَّسُ لكونِها بتصرّف الإنسانِ الذي سَخَّرَ اللهُ لأجله كلَّ الكونِ وجعله سيِّداً على كلِّ المخلوقات. كلُّ ما يستخدمُه الإنسانُ يتقدّسُ ليخدم مخطّط الله الخلاصيَّ للكون بأسره.
 
انطلاقاً من هذه الرؤية التقديسيّة الشاملة لـ “الغطاسيّة”، لا بدّ من أن نتوقّف عند بعض الملاحظاتِ التي نرجو أن تُؤخذَ بعين الإعتبار عند ممارسةِ هذا “السر”، من قِبَلِ الرّعاة والمؤمنين على السواء.
 
1-على المؤمنين أنْ يتصرّفوا كما يليق بأبناء للكنيسة، واعِينَ أبعادَ هذه الخدمة أو هذا السرِّ وأهميّتها في حياتهم. لا بدّ، أوّلًا، مِنَ التّعليمِ والتّوجيهِ اللَّذَينِ يَجبُ أن يكونا من أولويّات المهامّ الكنسيّة لدينا. المعرفة ضروريّة، وبدونها لا لَومَ على أحدٍ ولا استقامةَ في الفكر والحياة. في “الغطاسيّة”، عند دخول الكاهن حاملًا الصليبَ وناضِحًا بالماء، يجب أن يُدركَ كُلُّ مؤمنٍ أنّ منزله وحقله وكلَّ ما يملك يتحوّلُ إلى كنيسة، يَظهر فيها اللهُ. عند يهود عصرِ المسيح، لا يحضرُ اللهُ ولا يظهرُ إلّا في الهيكلِ. لكنّ الربَّ شاءَ أن يكونَ ظهورُه في الطبيعة، في برّيّةِ الأردنِّ، عند النهر. أصبح الخلاءُ هيكلًا لله. يجب أن ندركَ أنّ الكنيسة خَلَعَتْ عنها الجدران وتمدّدتْ إلينا، إلى مكانِ حضورِ كلٍّ منّا. عندها يدركُ كلّ ربِّ بيتٍ أنّه يجبُ عليه أن يكونَ حاضراً في منزله، منتظراً، بشوقٍ، هذا التحوّل، فلا موسيقى ولا أغانيُّ ولا تلفازٌ يضجُّ، ولا أحاديثُ وجلساتُ سَمَرٍ، ولا تدخينٌ وكحولٌ ولا خادمةٌ تنوبُ عن ربّةِ المنزلِ وربِّ العائلة، ولا تهرُّبٌ مِنَ الكاهن لأنيّ على خلافٍ معه لسببٍ أو لآخر، بل ترتيلٌ وصلاةٌ وعَبَقُ بخورٍ ولباسٌ محتشمٌ لائقٌ وترتيبٌ ونظافة، كما لَو كُنتُ في الكنيسة. يجب أن يُدركَ المؤمنُ أنّ “الغطاسيّة” هي كَسْبٌ له لا يُقدَّرُ بمالٍ، وليست مناسبةً مُكلِفَةً تُفقِدُه بعضاً من ماله. هي منزلٌ يتحوَّلُ هيكلاً لحضورِ الله، وهي تقديسٌ له ولأهلِ بيته ولكلّ مقتنياتِه.
 
2- “الغطاسيّةُ” ليست زيارةً رعائيّة. ربّما يستغربُ كثيرون هذه الملاحظة. لكن انطلاقاً من أسراريّةِ هذه الخدمة، يمكننا أن نتفهّمَ هذه الملاحظة. رشُّ المنازِل بالماءِ المقدّس هو صلاةٌ وسرٌّ كنسيٌّ وليس مجالاً لاِفتقاد أبناءِ الرعيّة. فَلْتُنظَّمْ زياراتٌ رعائيّةٌ في ظَرفٍ آخر. إنّ عدمَ التقيُّدِ بِهذه الملاحظةِ سيَجعلُ تقديسَ جَميع منازلِ الرعيّة مستحيلاً خلال فترةِ عيد الظهور الإلهيِّ، بخاصّةٍ في الرعايا الكبيرة، وستمتدُّ، على الأقل، لِمُدَّةِ شَهرٍ بِكامِلِه، ونكونُ قد ابتعدنا عن أجواء العيد. ولا يحقُّ لنا أن نُمَيِّزَ بين منزلٍ وآخر فيما خصّ الوقتَ الّذي نُمضيهِ في هذا البيتِ أو ذاك. بكلامٍ أوضح، لِيَعتَبِرِ الكاهنُ نَفسَهُ أنّه في الكنيسة يَجولُ فيها لينضحَ المؤمنين بالماءِ المقدّسِ مترافقاً مع الصلواتِ والتراتيل، وهكذا فَلْيَمُرَّ مُرورَ الكِرام.
 
3- إنْ أردنا أن نُعِيدَ “للغطاسيّةِ” طابعَها الكنسيَّ التقديسيَّ الذي كثيراً ما يُغَيِّبُه جمعُ المالِ خلالها، فلا بدّ أن يَغيب المالُ عن هذه الخدمة. لا نقول هذا تعفّفاً عن المال. فالمالُ ذاتُه يتقدّس إذا وُضِع في خدمة تقديسِ المؤمنين، ولكنّنا لا نريد أن يُصبحَ المالُ سبباً لاِمتناع بعضِ أبنائنا عن استقبال الكاهن، أو للضغط على مَن هُم فِعلًا غيرُ قادرين على الاِستغناءِ عنه بسبب ضيقٍ معيشيٍّ، أو ربّما يُشعرُهم بدونيّة مقارنةً مع مَن يَدفعون، يمكننا أن نَتَفَهَّمَ الظُّروفَ الّتي أدّت إلى استغلالِ هذه المناسبةِ وغيرِها لِجَمْعِ المال، بُغيةَ تأمين معيشة ِكاهن لا يَملكُ دَخْلًا ثابتًا. لقد آن الأوانُ لتنظيمِ هذه الأمور، التي هي بدورهِا مقدّسة، بطريقةٍ أكثر ترتيباً ولياقةً.
 
هذا غَيضٌ من فَيض، نرجو أن يُسهِمَ في فهمٍ أفضلَ وعيشٍ أعمقَ لأعيادنا.

الاب ميخائيل الدبس

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share