المعموديّة في نهر الحقّ الإلهيّ

mjoa Tuesday January 7, 2014 109

“وكان يوحنّا يبكّت هيرودس، رئيس الرّبع، من أجل هيروديّا امرأة أخيه، ومن أجل جميع الشّرور الّتي كان يصنعها”.

     كلمة الحقّ، دائمًا، تُبَكِّت! النّبيّ هو الّذي يرسله الله من أجل غايتين: الغاية الأولى هي أن يقول كلمة الحقّ؛ والغاية الثّانية هي أن يُبكّت ويُزعج. النّبيّ يأتي، دائمًا، كمُرسَل يُزعج النّاس؛ فلا عجب إن كان إسرائيل، في كلّ تاريخه، قد سعى للقضاء على أنبياء الله. إسرائيل يبحث، دائمًا، عمّا يناسب أهواءه. وكلمة الله تأتيه، دائمًا، مزعجة. كلّ إنسان، في الحقيقة، يطلب إلهًا على صورة أهوائه، ولا يمكنه أن يرضخ لله، إلاّ إذا كان متّضعًا. والإنسان، بعد السّقوط، كان مستكبرًا. هكذا كان هيرودس، وهكذا هو كلّ واحد منا. كلّ إنسان يميل إلى عبادة نفسه، إلى عبادة أهوائه! لذلك، يرغب، بحسب الإنسان العتيق الّذي فيه، في أن يستخدم الله استخدامًا! فلا عجب إن كانت آلهة الأمم أوثانًا. الوثن هو الإله الّذي يصنعه الإنسان لنفسه، ويعبده. من خلال الوثن، يعبد الإنسان نفسه! هذه نزعة في النّفس البشريّة، كلّ إنسان معرَّض لها. اليهود صلبوا الرّبّ يسوع، لأنّهم، في الحقيقة، كانوا يعبدون أنفسهم. لمّا جاء ابن الله متجسدًّا، وسلك بتواضع قلب، وكان وديعًا؛ بدا غريبًا عنهم بالكامل. ليس الكتاب المقدّس هو ما يجعل النّاس يعبدون الله. الكتاب المقدّس أداة تساعد. لكن، بيُسرٍ، يمكن الإنسان أن يستعمل الكتاب المقدّس وثنيًّا! يستعمله لغاية غير نقيّة في نفسه! يستعمله ليستخدم الله، لا ليخضع لله! من هنا، ما لم يكن الإنسان محبًّا للحقّ؛ ومن ثمّ، ما لم يكن متّضعًا في القلب – لأنّ الإنسان، من دون اتّضاع القلب، يستحيل عليه أن يقبل الحقّ – فلا يمكنه أن يفهم الكتاب المقدّس حقّ الفهم، ولا بدّ له من أن يستعمل الكتاب المقدّس لمحاربة الله! حتّى الشّيطان كان عارفًا بالكتاب المقدّس، وكان يستخدمه ليوقع بالنّاس؛ ومن ثمّ، ليمحو ذكر الله من قلوبهم!

     يوحنّا كان مزعجًا؛ وهيرودس كان مستكبرًا، وغير مستعدٍّ لأن يتغيّر. لهذا السّبب، كان لا بدّ لأحد الاثنين من أن يموت: إمّا أن يموت يوحنّا، وإمّا أن تموت أهواء هيرودس. لكنّ هيرودس تمسّك بأهوائه، وقطع رأس يوحنّا! طبعًا، كلّ واحد منّا شريك في ما جرى. إن لم نسمع الكلمة الّتي تنزل علينا بقلب مفتوح، بقلب متّضع؛ فلا بدّ لنا من أن نوجَد، في نهاية المطاف، مشارِكين لهيرودس وأمثاله في ما فعله بيوحنّا، إذ بدلاً من أن نقتبل الكلمة، فتصير الكلمة حياةً جديدةً لنا، نقطعها من الرّأس، نتخلّص منها! يوحنّا، بما فعله، اعتمد في نهر الحقّ! قبل أن يعمّد السّيّد، اعتمد هو، في قرارة نفسه، في نهر الحقّ الإلهيّ! واعتمد بموته! الموت، في نهاية المطاف، هو العلامة أنّنا لله! لا بدّ لنا من أن نموت من أجل يسوع، من أجل كلمته، من أجل محبّته! يستحيل علينا أن نبلغ إلى معرفةٍ قياميّةٍ بالرّبّ يسوع، ما لم تكن لنا معرفة صليبيّة به. علينا أن نذوق صليبه، أوّلاً؛ حتّى نأتي إلى مذاق قيامته، بعد ذلك!

     واعتمد يسوع! يسوع، أيضًا، أو بدءًا، في الحقيقة، اعتمد لموت نفسه! ونزوله في نهر الأردنّ كان تمهيدًا لنزوله إلى مثوى الأموات. نحن، حين اعتمدنا، اعتمدنا لموت يسوع! اعتمدنا لنكون شركاء في موت يسوع! اعتمدنا لنقول الحقّ، لنشهد للحقّ، لنعيش للحقّ ونموت للحقّ! لا قيمة لمعموديّتنا بالماء والرّوح، ما لم تكن معموديّةً للموت من أجل يسوع! نحن نموت، كلّ يوم! الرّسول بولس قال ذلك بوضوح: “أنا أموت كلّ يوم”!

مَن أراد أن يسلك في إثر يسوع، كان عليه أن يحمل صليبه، كلّ يوم، ويتصدّى لإنسانه العتيق، لأهوائه، لمحبّته لذاته، لعشقه لنفسه، لعبادته لأناه! هذا نفعله في أساس كلّ ما نأتيه من سلوك، سواء بالقول كان ذلك، أم بالعمل؛ لأنّنا “إن عشنا، فللرّبّ نعيش؛ وإن متنا، فللرّبّ نموت؛ فإن عشنا، وإن متنا؛ فللرّبّ نحن” (رو14: 8). بعد أن اعتمدنا، صرنا لسنا لأنفسنا، صرنا للّذي بذل نفسه من أجلنا! بتنا لمَن افتدانا، لمَن اشترانا بدمه! في مؤسّسة العبيد، قديمًا، إن اشترى المرء عبدًا، صار العبد له. ويسوع اشترانا بحياته، بدمه! لهذا، صرنا له! الإنسان، إذا تُرك لنفسه، لا بدّ له من أن يعود عبدًا؛ لأنّ “مَن يصنع الخطيئة هو عبد للخطيئة” (يو8: 34). الرّبّ يسوع لا يشاء أن يترك الإنسانَ وحده، لأنّه يحبّه، لا لأنّه يريد أن يتسيّد عليه. سيادة الرّبّ يسوع ليست من تسلّطه على الإنسان، بل من خدمته له خدمةَ محبّة. ألم يقل: “ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدم” (متّى20: 28)؟! إذًا، الرّبّ يسوع غيور على ما هو صالح لنا، أكثر من ذواتنا. نحن، دائمًا، منذ السّقوط، نؤذي أنفسنا، ونلقي بأنفسنا في التّهلكة، ونحسب أنّنا نصنع الخير لذواتنا! نحن، من دون الله، من دون الرّبّ يسوع، من دون نعمة روح الرّبّ القدّوس، لا يمكننا أن نأتي بعمل صالح واحد حيال أنفسنا. نحن نحتاج، دائمًا، إلى نعمة الله؛ لنعمل ما فيه الخير والبركة، لا للآخرين وحسْب، بل لذواتنا، بدءًا.

     لهذا، يا إخوة، اعتمد الرّبّ يسوع لموتنا، حتّى نعتمد نحن لموته! هكذا، نكون قد بادلناه المحبّة بمحبّة! ومحبّتنا لله لا تصبّ في خانة الذّوبان في ما لله، بل في خانة إيجاد أنفسنا في الله، في يسوع! نحن لسنا كيانات قائمة في ذاتها. كلّ واحد منّا يستمدّ نفسه، يستمدّ هويّته من يسوع! مسيح الرّبّ هو نَفَسُنا! من دونه، لا نستطيع أن نتنفّس. به نوجَد، وبغيره لا يكون لنا وجود، على الإطلاق. لأجل هذا، شاء، بمحبّته العظمى، أن يقيم فينا؛ حتّى نوجَد إلى الأبد. كما أنّ الآب والابن والرّوح القدس لا مجال له لأن يوجَد، إلاّ إذا كان كلٌّ في الآخر؛ كذلك، لا يمكن الإنسان أن يوجَد، إلاّ إذا أقام فيه الثّالوث القدّوس. نحن نقيم في الثّالوث القدّوس، والثّالوث القدّوس يقيم فينا! هذا هو ختم وجودنا، هذا هو ختم الحياة الأبديّة فينا. الخيار هو، في الحقيقة، بين أن نكون آلهة أو لا شيء. لهذا السّبب، محبّة الله جعلتنا آلهة بالنّعمة، وإلاّ لا معنى، أبدًا، لوجود الإنسان.

     “وكان صوت من السّماء قائلاً: أنتَ ابني الحبيب، بكَ سُررتُ”. هذا هو الفادي والفدية، في آن. لذلك، هو الحبيب، هو الّذي سُرّ به قلب الآب السّماويّ. ولأنّه كذلك، ولأنّه يشاء أن يصير إيّانا بالحبّ، بالتّبنّي؛ نصير نحن جسد الابن الحبيب، الذي سُرّ به الآب السّماويّ. الحكاية، من البداية إلى النّهاية، هي حكايةُ تفتُّقِ محبّةِ الله في هذا المخلوق التّرابيّ، الّذي هو الإنسان، إذ لنا هذا الكنز في آنية خزفيّة؛ لذا، اعتمد يسوع بمحبّته، ليعمّدنا بمحبّة الله، لتقيم محبّته فينا مرّة وإلى الأبد. فالمجد لله على ما صنعه.

     آمين.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share