لقد عيّدنا للظهور الإلهي في الأسبوع الماضي، واليوم نقرأ فصلا من إنجيل متى والحديث فيه عن البشارة التي قام بها المخلّص بعد ان اعتمد من يوحنا. يدور الفصل الإنجيلي حول عودة المسيح من موضع الاعتماد الى الجليل والجليل الأعلى حيث كانت بلدة كفرناحوم التي سكنها بدل أن يسكن مدينته الناصرة.
وإذ تحدث متى البشير عن ذهاب يسوع الى الـجـلـيل تـذكّر أن هذه المنطقة، منطقـة زبولون ونفتاليم -وهما ولدان ليعقوب-ذُكرت في إشعياء النبي الذي قال بعد أن جاء الأشوريون في القرن الثامن قبل الميلاد واحتلّوا الجليل وسلخوه عن مملكة إسرائيل: “ان الشعب الذي عند طريق البحر، عبر الاردن جليل الأمم (اي الطريق الآتية من دمشق الى شاطئ المتوسط)، الشعب السالك في الظلمة (احتلال الأشوريين ظلمة) أبصر نورًا عظيمًا” (إشعياء ٩: ١-٢). إشعياء تحدّث عن نور جديد سوف يظهر في تلك البلاد، وجاء متى البشير يقول لنا ان النور الذي انتظره الأنبياء قديمًا هو الذي جاء بيسوع الناصريّ: الآن بعد ان وصلت البشارة بيسوع الى الجليل، سطع النور، نور هذا الكلام الجديد وهذا الانسان الجديد.
البشارة كانت هذه: “توبوا فقذ اقترب ملكوت السموات”، وهي نفسها بشارة يوحنا المعمدان. بعد ان سُجن يوحنا، استلم يسوع هذه الرسالة وأخذ يدعو الناس بها الى الله أبيه.
ونحن بعد أن عيّدنا لعيد الظهور الإلهي والميلاد، صار علينا أن نسلك حسب هذا النور الذي ظهر على الأردن، علينا طيلة حياتنا وليس فقط في العيد، ان نكون مستنيرين بهذا النور. والاستنارة الدائمة هي أن نتوب، أن نعود الى وجه الآب. بعد أن سمعنا صوت الآب على نهر الأردن يعلن بنوة المسيح اليه، وبعد ان شاهدنا الابن متجسدًا في المغارة وظاهرًا على الناس، كان علينا أن نسلك بقوة هذا الظهور حتى يبقى الله ظاهرًا في أعمالنا الصالحة، ويقترب الملكوت منا والملكوت هو سيادة الله على القلوب.
ليس الملكوت شيئًا آتيًا في المستقبل وحسب، الملكوت ساطع سطوعًا كبيرًا اذا أخذَنا المسيح اليه في اليوم الأخير وأقامنا معه ومع قديسيه، لكن الملكوت يقترب شيئًا فشيئًا بسبب الإنجيل الذي أُعلن. يقترب الملكوت منّا في الكنيسة التي نحن نحيا فيها، ولكونه يقترب ويحيط بنا، لا يبقى علينا سوى ان نشاهد نوره، ولا يشاهد النورَ الإلهي الا مَن حلّ فيه النور، وهذا هو المعنى الحقيقي لكلمة التوبة.
التوبة بالعربية هي أن يحوّل الانسانُ وجهه الى شيء آخر. التوبة في المسيحية هي تحويل الوجه الى الله بعد ان كان هذا الوجه ينظر الى أمور الجسد والى قضايا المعيشة وينحصر فيها ويغرق.
من أجل ذلك، بعد هذه الأعياد، لا يبقى علينا الا ان نسلك سلوكًا صالحًا، سلوك مَن تمسّك بالوصايا لأنه يعرف ان كلمة الله حلوة كالعسل وانها سراج منير لطُرُقنا. من أجل ذلك وقبل أن يجيء الصوم الينا بعد أسابيع، سوف نسعى أن نبقى مستنيرين وكأن العيد لن ينقطع، حتى إذا جاءنا الصوم نكون متمكّنين من قدرة الله، ممتلئين بقوة المسيح حتى نسلك بوداعة وتواضع ولطف وطهارة ونستقبل الفصح.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)