لا بدّ من هبوب الرّيح! هذا نافع ومن ضمن قصد الله! ينقِّي! ينظِّف! يغربل! ما دام هناك قمح فهناك، أيضًا، هباء! والهباء بحاجة لأن تذرّيه الرّيح لئلاّ يستوطن الرّطَب فيه فيَعفَن وتسري فيه الدّابّات فتنخر الحَبَّ فينفسد! رَطبُ الخطيئة لا بدّ منه. أرضُنا رطبة. التّجارب، ولو سالبة، تساهم في مشروع الخلاص وإيجابيّة الحياة في المسيح! لولا التّجربة، قال آباؤنا، ما خلُصَتْ نفْسٌ! أمر غريب؟! لا شكّ في ذلك! واقع السّقوط فَرَضَ! الخلاصُ عرفناه قيامة، ولا قيامة بغير الصّليب! التّجربة والتّجارب هي الصّليب اليوميّ لكلّ مَن تاق إلى الخلاص بمسيح الرّبّ. “… فلينكر نفسه ويحمل صليبَه كلّ يوم ويتبعني” (لوقا 9: 23).
ليس الإيمان بيسوع يقينا من التّجارب، بل من “التّجربة”، والتّجربة كانت اليأس، أي اللاّإيمان! هذا ما يحدونا، في الصّلاة الرّبّيّة، إلى التماس عدم الدّخول في التّجربة، طِلبَةً! أمّا التّجارب، في ذاتها، فحتّى لو كانت مضادّات حيويّةً، فإنّها، بالثّبات في الإيمان، تُطفِئ حمّى أهواء النّفْس والجَسَد! لذا مَن يسعى للهرب من التّجارب، يسعى، من حيث لا يدري، للهرب من الخلاص! التّجارب برسم المواجهة وإلاّ لا نذوق نعمة الله! لا تُسبَغ علينا النّعمةُ في اليُسْر! بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السّموات! بالعُسْر، أو قلْ بالعَصْر! الزّيتون بحاجة إلى عَصْر ليَخرجَ زيتًا حرًّا من اليَبَس والرَطَب! وكذا النّفسُ حتّى تُفعَمَ من زيت رحمة الله!
في المسيح، التّجارب لا تأتي كمؤشّرات للفتك والهلاك، بل للتّعزية والبنيان! كيف تكون للتّعزية فرصة إلاّ بعد شدّة؟ وكيف يكون للبنيان مجال إلاّ إذا واجه المرءُ خطر التّداعي؟ ثمّة ما يكون للتّجديد والتّرسيخ! بالتّجارب يشاؤنا الرّبّ الإله أن نخرج من الرّخاوة في السّيرة، أن نكبر في النّعمة والقامة، أن ننمو في الصّبر والاتّضاع، وأن نثبت على الرّجاء. لذا الغمام الأسوَد لا بدّ منه. الشّعور بالضّعف ضرورة وإلاّ لا تحلّ فينا قوّة المسيح. الضّعف واقع الإنسان. خبرة الضّعف لازمة ليكون الإنسانُ واقعيًّا، في تعاطيه النّاس والأحداث، لكي لا يقع في الوهم، ولكي ينشدّ، أبدًا، إلى ربّه: بالصّلاة، بالانتظار، بالمحبّة، وبضبط النّفْس… وكذا خبرة العجز، وإلاّ كيف يخرج من ثقته المفرطة بذاته؟ كيف يسْلِم أمرَه لربّه؟ الرّبّ الإله، كحاجة كيانيّة أحشائيّة، لا يأتي إلاّ في خضّم الضّعف والعجز!
خارج هذا النّطاق، الله أدنى إلى الفكرة، إلى التّصوّر، إلى النظريّة! لا مطرح، والحال هذه، للإله الحيّ ولا للعلاقة الحيّة به: لجّة تنادي لجّة! متى حلّت الظّلمة ومتى اشتدّت حِلكتها، كان النّور على وشك أن ينبلج! بلى! ثمّة صراع يأتي ومعركة تُخَاض، وجهاد يُبذَل! هذا لا بدّ منه! قبل الولادة – والخلاص ولادات صُعديّة تتوالى – مخاض! لا يكبر أحدٌ إلاّ بعد أزمة وأزمات! النّمو، دائمًا، مأزوم! وحده الجماد راكد! خبْطُ الدّم في العروق الرّوحيّة عنفُ الحياة حتّى لا نتلاشى ونموت!
من أخبار القدّيس برفيريوس الرّائيّ، أنّ صبيّةً عانت، في ذويها، حتّى اليأس، فقرَّرت أن تضع حدًّا لحياتها. ذهبت إلى آخر الجنينة لديهم، ومعها أنبوب من السّمّ. غارت في العتمة. وما إن همّت بتنفيذ ما في نيّتها، حتّى سمعت صوتًا لطيفًا يخاطبها! التفتت فأَلْفَت كاهنًا في الضّوء فوجمت! الحياة جميلة يا بنيّة! الجنّة بديعة. كلّها بهجة وروعة! وجهنّم شقيّة! كلّها قتام وشدّة! إذا تناولتِ السّمّ الّذي في جيبك تُلقين بنفسك في جهنّم، وتُحرَمين فرح الجنّة! ارميها بعيدًا! أنتِ الآن، حزينة! ولكن لن يدوم حزنُك طويلاً! الأيّام المشرقة آتية عليكِ! غدًا يُقبل الفرح! تتزوّجين وتنجبين وتعيشين سعيدة! الغيوم السّوداء تتبدّد! اخترقت كلماتُه قلبها، فإذا بها، بحركة عفويّة، تُخرج السّمّ من جيبها وتلقيه عنها! مرّت الأيّام وانجلت السّماء! جاءها شاب أحبّته وزُفّت إليه. أنجبت. عاشت سعيدة. قدمت لزيارة عمّتها، مرّة. كان هناك كاهن في الدّار. دخلت لتأخذ منه البركة. رفعت عينيها إليه. شهقت! إنّه الكاهن الّذي رأته في عتمة الجنينة تلك اللّيلة! كان هو القدّيس برفيريوس!
أيّامنا الرّاهنة قاتمة. لا بأس! هذا، أيضًا، من تدبير الله، وليس فالتًا من ضَبْطِه الكلَّ! الرّيح تنفخ الهباء فينا ومن حولنا! العاصفة تهبّ ليُخرِجَ البحرُ ما في جوفه من قاذورات تكدّست! سفينتنا تتقاذفها الأمواج! لم يعد بإمكاننا السّيطرة عليها! تعلو وتهبط كما لو كانت ستنقلب! لكنّها لن تنقلب، لأنّ مسيح الرّبّ على متنها! هو فيها وهي فيه! نائمًا على وسادة، كما أفاد مرقص الإنجيليّ (4: 38)!
ليس التّلاميذ بمتروكين! توارى عنهم، تدبيرًا، لكنّه في وسطهم! إذًا لا خوف عليهم! أنام وقلبي مستيقظ! فقط، شاءهم أن يتعبوا وِسْعَهم ليتأهّلوا للبركة! وهو آتيهم، لا محالة، متى استنفدوا قواهم، ليعرفوا أنّه يحبّهم، وأنّهم، بالإيمان، والإيمان وحده، في نهاية المطاف، ينجون! لا يحتاج ربّك إلى قواك ليخلّصك! يحتاج إلى قلبك! أعطني قلبك يا بنيّ! يحتاج إلى إرادتك! لتكن مشيئتك! قلبُنا مُغوًى بغير الله! يَشرد بعيدًا! يعلم الله أنّ كثرة من شعبه، وحتّى من خاصّته، مضلَّلة! يتركنا في مهبّ الرّيح لكي نصحو من سهو فِتنة العالم، من غفلة روح الخطيئة! ليس هو النّائم عنّا! نفوسنا نامت عن الحسّ! استيقِظْ أيّها النّائم ليضيء لك المسيح!
ليس ما يأتي علينا من ضيقات من فوق! تبلُّدُنا وخَدَرُنا وحدهما يستدعيان! لذا تستحيل صلوات القدّيسين من أجلنا ضيقات! هذا مؤشِّر تصلّبٍ كبير في القلب! بعضٌ من تصخّر وتسحّر أو الكثير منه! محبّة الله عينُها تمسي حرّاقة! محبّته نارٌ، أبدًا، تندّي القلوب المؤمنة، وتأكل القلوب الصّلدة! إلهنا نار آكلة، قيل! هذا، أيضًا، من ضمن مشروع الخلاص! يريد أن يخلِّصنا بتعاوننا، أو يصدمنا بالواقع العميق للخطيئة ليستدرّ تعاوننا على خلاصنا! محبّته تغلب! لذا نقرأ ما يحدث لنا وما يزأر علينا كما بروح الرّبّ، وإلاّ لا نفهم شيئًا ولا ننتفع شيئًا! نزداد تصلّبًا، ومن ثمّ مرارة، ونموت غباءً! ليس أمرٌ ممّا يجري، اليوم، بلا معنى! مَن يصرّ على التّذمّر وعلى التّهرّب يستبهم! لمّا كان الإنسان في كرامة ولم يعتبر قيس بالبهائم الّتي لا عقل لها وشُبِّه بها!
لا خوف علينا ممّا يُبوَّق في آذاننا! هذا، اللهُ ضابطُه بمقادير حتّى يكون لمنفعتنا كقليل من سمّ الحيّة دواءً! الخوف هو ممّا يبثّوننا إيّاه من أوهام حتّى نهلع! إعلامٌ روحُه معتلّة، ونفوسٌ توهَم أنّ لها بما تشاهِد وتسمع وتقرأ طمأنينةً! يُمعنون خبْطًا بأعصاب النّاس حتّى التّفه والتّلف! اجتنبوهم حتّى لا تؤخذوا بزوابعهم! أليس الرّكون إلى ربّكم أجدى؟!
المطرقة المنزَّلة، بتواتر لا يتوقّف، على رؤوسنا وأعصابنا هي لِتُضنينا وتبعثَ فينا اليأس والموت! نحن في صلب المواجهة! نتفتّت أو ننجمع! بلى، هذا زمن الشّدّة بامتياز، لكنّه زمن النّعمة بامتياز أكبر! فإنّه حيثما اشتدّت التّجربة ازدادت النّعمة جدًّا! لا نؤخَذَنّ بالهلع بل بالتّوبة والطِّلبة، بالإيمان والرّجاء والمحبّة! لا نقولنّ: غدًا تهدأ العاصفة وتتبدّد الغيوم القاتمة! اليوم، الآن، تهدأ عواصف القلب بكلمة مسيح الرّبّ: اخرس، ابكم! ساعتذاك تلقاك تقيم في السّكون وسْط الهدير، وتستوطن السّلامة في خضمّ المخاطر!
تعالَوا إليّ يا جميع المتعَبين والثّقيلي الأحمال وأنا أُريحكم! في العالم سيكون لكم اضطراب، ولكنْ، لا تخافوا، أنا قد غلبتُ العالم!