لم يصل الرسل إلى الإيمان بالثالوث الأقدس بتأثير من الديانات القديمة ولا من الفلسفة اليونانيّة. إنّما هو حصيلة اختبار عميق عاشوه في لقائهم الربّ يسوع في حياته وبعد قيامته. ففي عمله رأوا عمل الله، وفي حضوره عاينوا حضور الله، وفي كلامه سمعوا كلام الله. ومن بعد قيامته ظهر لهم وأرسل إليهم روحه القدّوس ليُقيم معهم ويمكث فيهم ويقودهم إلى ملء الإيمان. واستنادًا إلى هذا الإيمان الرسوليّ راحت الكنيسة، عبر تاريخها وتراثها الحيّ، تبني عقيدة الثالوث الأقدس.
لا ريب في أنّ الجماعة المسيحيّة الأولى لم تلجأ إلى التعابير الفلسفيّة التي ستستخدمها الكنيسة في ما بعد، ولا سيّما في التحديدات العقائديّة التي صاغتها بتأنٍ المجامع المسكونيّة وخلاصات الآباء القدّيسين. وهذه التحديدات ليست جديدة بالنسبة إلى الإيمان كما يعبّر عنه العهد الجديد، وما استعمال المجامع المسكونيّة للألفاظ الفلسفيّة كالطبيعة والجوهر والأقنوم سوى تعبير عن إيمان العهد الجديد ذاته بلغة يفهمها العصر الذي وردت فيه. علمًا أنّ التحديدات العقائديّة، مهما كانت دقيقة، لا تستطيع الإحاطة التامّة بسرّ الإيمان، ولا التعبير تعبيرًا وافيًا عن عقيدة الإيمان.
منذ بدء المسيحيّة، آمن تلاميذ الربّ يسوع أنّ الله نفسه بكلّ قدرته قد ظهر لهم في شخص يسوع المسيح، ثمّ تثبّت هذا الإيمان بقيامة يسوع من بين الأموات. فالرسل، خلال مرافقتهم يسوع، عاينوا أنّه صنع في حياته أمورًا خاصّة بالله، وفي هذا يسعنا القول إنّ هذه الأمور تمثّل نقطة الانطلاق للإيمان المسيحيّ بالثالوث الأقدس. فغفر الخطايا، و”ما من أحد يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده” (مرقس ٢: ٧). ونقض شريعة السبت التي وضعها الله نفسه (مرقس ٢: ٢٩). وكان في تعليمه يتكلّم بسلطان إلهيّ: “سمعتم أنّه قيل للأوّلين… أمّا أنا فأقول لكم”، في إشارة إلى الشريعة الموسويّة والشريعة الجديدة التي أعلنها في موعظته على الجبل (متّى، الإصحاحات ٥ و٦ و٧).
لقد اقتنعت الكنيسة الرسوليّة أنّ يسوع، بقيامته، ليس مجرّد إنسان أو نبيّ، بل هو الإله الكائن منذ الأزل. فآمنت أنّه هو “المسيح”، معبّرة بذلك عن إيمانها بأنّ الله قد أقام فيه الملكوت الذي وعد به منذ العهد القديم. كما آمنت بأنّه “ابن البشر”، منتظرةً أن يأتي من جديد للدينونة وقيامة الأموات وبدء زمن الخلاص. وآمنت، أيضًا، بأنّه “ابن الله”، وبأنّه “الربّ”، وهذان الاسمان هما، في الأصل، من أسماء المسيح الملك في العهد القديم. يسعنا القول، إذًا، إنّ الكنيسة، منذ نشأتها، وعت أنّ يسوع القائم من بين الأموات هو الإله الفادي الذي “تجثو لاسمه كل ّركبة ممّا في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، ويعترف كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب” (فيلبّي ٢: ١٠-١١).
يُرينا العهد الجديد أنّ الله قد ظهر لنا ظهورًا كاملاً في شخص يسوع، في حياته وأعماله وأقواله. وهذا ما يعنيه اسم “الابن الوحيد” الذي يطلقه العهد الجديد على يسوع. فيسوع هو الابن الذي به عَرفْنا الآب. لذلك، لا يمكن أيَّ إنسان من بعدُ أن يتكلّم على الله إلاّ من خلال يسوع الذي أظهر لنا الله. لا يمكن أيَّ إنسان أن يتكلّم على الآب إلاّ من خلال الابن. تلك هي نقطة الانطلاق لعقيدة الثالوث الأقدس في العهد الجديد وفي المسيحيّة. فالإيمان بالثالوث الأقدس ليس نظريّة فلسفيّة اخترعها العقل البشريّ ولا تصوّرًا عقلانيًّا عن الله، بل هو تعبير عن ظهور الله ظهورًا ذاتيًّا في شخص يسوع المسيح.
لا نجد في الكتاب المقدّس تحليلاً نظريًّا ولا تحديدًا عقائديًّا لكيان الروح القدس. إنّ ما نجده هو حصيلة خبرة شعب الله، في العهدين القديم والجديد، لحضور الله وعمله في الكون وفي الإنسان، ولملء حضوره وعمله في شخص يسوع المسيح، ومن ثمّ في الرسل والكنيسة. فالروح القدس هو روح الله الذي يملأنا من حياته من دون أن نستطيع إدراك سرّه. هو “الربّ المحيي”، هو “حضور الله فينا”، الذي يقودنا إلى الحقّ. الروح القدس هو روح الله نفسه، والعمل الذي يُنسب إليه في الكتاب المقدّس لا يمكن أن يُنسب إلاّ إلى الله نفسه. لذلك أكّد الآباء والمجامع المسكونيّة على مدى القرون أُلوهة الروح القدس، وأَعلنوا أنّ الروح القدس هو أحد أقانيم الثالوث الأقدس.
تبدأ البشارة الإنجيليّة بظهور للثالوث الأقدس: “فلمّا اعتمد يسوع، خرج على الفور من الماء، وإذا السموات قد انفتحت له، ورأى روحَ الله ينزل بشكل حمامة ويحلّ عليه. وإذا صوت من السماء يقول: هذا ابني الحبيب، الذي به سُررتُ” (متّى ٣: ١٦-١٧). ويختم الإنجيليّ نفسُه بشارته بإرسال الربّ تلاميذَه ليُعمّدوا العالم باسم الثالوث: “اذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتُكم به” (متّى ٢٨: ١٩-٢٠). لا تهدف العقيدة المسيحيّة في شأن الثالوث الأقدس إلى إشباع رغبة الإنسان الذهنيّة في معرفة أسرار الغيب وأسرار العالم السماويّ، بل هي دعوة للدخول في شركة مع الله عبر المعموديّة، وممارسة الأسرار حيث يتجلّى عمل الآب والابن والروح القدس في العالم في سبيل تقديسه وخلاصه.