فيما يوصي الرّسول المصطفى بولس أهلَ كولوسي بأنْ “ليكن كلامكم كلّ حين، بنعمة، مُصلَحًا بملح لتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كلَّ واحد” (4: 6)؛ وفيما يتبسّط في الطّلب عينه لأهل أفسس أن “لا تخرج كلمة رديّة من أفواهكم، بل كلّ ما كان صالحًا للبنيان حسب الحاجة، كي يعطي نعمة للسّامعين…” (4: 29)، يخرج إلينا بعض أبناء الإيمان بأسلوب جديد من التّعاطي هو الشّتيمة! كأنّ الغيرة على الكنيسة لم تعد بحاجة إلى التعقّل والوداعة واللّطف وكلام النّعمة لتعبِّر عن ذاتها بل إلى الانفعال والتّجريح! تغذّي هذا المنحى وسائل يقولون عنها، زيفًا، “وسائل الاتّصال الاجتماعيّ” تعطي مَن يرغب فرصةَ إيصالِ الكلام القبيح إلى أعداد من النّاس، وإشاعةِ التّلوّث الفكريّ والبلبلة فيهم. بعض الرّعاة والرّعيّة، في ذلك، بكلّ أسف، شركاء! الاحترام المتبادل بين المؤمنين يجرفه سيلٌ من القحة في التّعامل! يبدو الحبْل متروكًا، بالأحرى، على الغارب! كأنّي به زمن العبث النّاجم عن انحراف ولا حسّ ولا مبالاة!
يا شاتميّ – لست أتكلّم عن نفسي وحسب، بل عن كلّ الّذين تصوِّبون، في اتّجاههم، سهام شتائمكم-، إذًا، يا شاتميّ، أنتم إخوة لي مهما فعلتم، ما دمت وإيّاكم خرجنا من جرن أقمنا عليه خدمة إلهيّة واحدة، وكرّسنا ماءه لحياة جديدة برسم إشارة الصّليب عليه. أيَشتم الأخُ في المسيح أخاه؟! أما يَشْتُم المسيحَ نفسَه، أستغفر الله، والحال هذه، وهو الّذي جعل ما يُعمَل بإخوته كأنّه يُعمل به هو أيضًا؟! أما يُفترض بنا أن نتخلَّق بأخلاق معلِّمنا “الّذي إذ شُتِم لم يَشتم عوضًا، وإذ تألّم لم يكن يهدِّد، بل كان يسلِّم لمَن يقضي بعدل” (1 بطرس 2: 23)؟!
أتظنّ، يا شاتمي، أنّي غير قادر على ردّ شتيمتك بمثلها؟ لكنّها ستكون خسّةً مني وصفاقة وسوقيّة لو فعلت! أنت أخي مهما فعلت بي! أَكْرَهُ ما تفعل، لكنّي لن أسمح لنفسي، تحت أي ظرف، بأن أكرهك! لذلك لا يسعني أن أشتمك! أنت حبيبي لأنّك حبيب المسيح، ولو كلّفني ذلك صراعًا مؤلمًا في داخلي لأضبط جماحَ غضبِ إنساني العتيق فيّ! أنت، من حيث لا تدري ولا تقصد، تعطيني فرصة، أو، بالحري، يعطيني الرّبُّ الإله بك، فرصة أن أقاوم أهوائي! أَفرحُ في الرّوح، يا أخي، أنّ هذا يتيح لي أن أُجاهد للخلاص، بصلاتك والأحبّة، ولكنْ، يؤلمني أنّ ما تفعله بي سوف يكون دينونة لك ما لم تعد إلى صوابك! لو قابلتُك، يا حبيبي، بما ترميني به لصرنا، معًا، ابنَين للشّتّام، وأبي الشّتّام! لست أفرحُ بذلك! أفرحُ، في الرّوح، بأنْ تُقلِعَ عن صِنعة إبليس!
نَبْعُ الشّتيمة، يا أخيّ، قلبٌ قاتم، جاهل، هائج، حقود، ضال، موتور، غريب عن روح الله، تمامًا، مِضغة للشّرّير، لأنّ “ثمر الرّوح محبّة، فرح، سلام، طول أناة، ولطفٌ…” (غلاطية 5: 22)!
يا شاتمي، يا أُخيّ! أنت حتّى لا تعرفني ولا تعرف ما أفكِّر فيه ولا حالي الدّاخليّة ولا ما عندي لأقوله في الشّأن الّذي تعتبر أنّي أستحقّ شتيمتك عليه وافتراءك عليّ! فقط، لأنّ آخرين قالوا لك عنّي ما قالوه وصوّروا ما صوّروه وحاكوا ما حاكوه تصدِّقهم وتندفع لتصبّ جام غضبك عليّ؟! سامحك الله وأنار قلبك! لماذا لا تتأكّد، أوّلاً، من صدقيّة ما سمعت؟! لمجرّد أنّ هواك يلتقي بهواهم تعتبر أنّه لا بدّ لك أن تكون على حقّ؟! واعجباه! أي منطق في الدّنيا يجيز لك أن تفعل ذلك؟! لا هذا منطق بشريّ سديد ولا هو منطق روحيّ قويم! هذا منطق عبثيّ! إذا ما كان لنا أن نطلق عليه تسمية، فالتّسمية – هنا أسألك العفو على التّعبير – هو “منطق العصابة”! أَرَجُل عصابات أنت! أم ابن كنيسة! أربأ بك أن تكون من الشّاردين!
حقّك، يا أُخيّ، أن تقول في سرِّك: فلان، الّذي أُحبّ، قال كذا! هذا مؤلم! كيف أُصدِّق؟! أنا لست متأكّدًا ممّا يقول! عليّ، إذًا، أن أستطلع الأمر لمنفعتي ومنفعته! سأصمت وأصلّي عسى الرّبّ الإله ينيرني وينيره!
أليس معيبًا، يا أُخيّ، أن تقول: حتّى لو رأيتُ بأمّ العين غير ما قاله لي فلان فلست أصدِّق؟! آآلة استنساخ أنتَ أم إنسان قلب وعقل؟! مَن الّذي ينبغي أن يُطاع: الله أم النّاس؟! قريبك مَن قاربتَه بالحقّ لا مَن أرضيتَه بالباطل! ليس الأمر أن تماشي أحدًا أو يماشيك أحدٌ في ما يقوله وتقوله، بل في أن تماشيا الرّبَّ الإله معًا، وفي أن يُصلِح أحدكما الآخر متى شَرد! فإذا لم يكن في طاقتك أن تستطلع الأمر بصلاة وهدوء وتعقّل، أما يكون خيرًا لك أن تلزم الصّمت، حتّى لا تستحيل، من حيث لا تدري، مساهمًا في آلية “طابور خامس” يسعى الشّرّير، بما يثير، من خلاله، من بلبلة، لتقويض روح الوحدة والسّلام والاتّفاق في كنيستك؟!
أليس الأوفق أن نمتنع عن إشاعة ما لسنا متأكّدين من صحّته، وكأنّه حقيقة، والحال هذه، من أن نبثّ الشّكّ والعثرة في نفوس النّاس؟! ويل لمَن أعثر أحد هؤلاء الصّغار المؤمنين بي!
حتّى غير المسيحيّين، متى كانت لهم بقيّةُ عقلٍ راجح وسلامةٌ في ناموس الطّبيعة يتأنّون في الأمور الضّبابيّة ويسلكون فيها بحذر وحيطة، فماذا نقول عن المسيحيّين؟! أيليق بهم أن يتصرّفوا بما لا يليق حتّى بالعاديّين من غير المسيحيِّين؟!
أمّا مسيحيًّا فليس مقبولاً أن يقول أحدنا في الآخر سوءًا مهما كان السّبب! إذا كان ما يُقال إشاعة وافتراء فإنّي أدفنه في نفسي ولا أتفوّه به أمام أحد! لا أسمح لنفسي حتّى أن أُفكِّر فيه لكي لا تؤثّر الإشاعة في موقفي الدّاخليّ من أخي، في نظرتي إليه! ولو افترضنا أنّ ما يُقال صحيح، فإنّي لا فقط أسكت عنه حتّى لا أُسيء إلى سمعة أخي، بل أُصلّي من أجله، أيضًا، في سرّي، حتّى يعينه الرّبّ الإله على التّجربة الّتي مرّ أو يمرّ بها! أخي، أنا مسؤول عنه مسؤوليّتي عن نفسي، ولا خلاص لي من دونه! إذا ما كان موقفي منه موقف شماتة أو لامبالاة، فإنّ ربّي يطالبني بدمه! أكون معرَّضًا للوقوع في ما يشبه ما وقع فيه أخي! أليس القول: “المحبّة لا تقبِّح ولا تظنّ السّوء” (1 كورنثوس 13: 5)؟! وكذلك “الفرحان ببليّة لا يتبرّأ” (أمثال 17: 5)؟! وأيضًا: “بالكيل الّذي به تكيلون يُكال لكم” (متّى 7: 2)؟!
ثمّ، يا أُخيّ، ويا شاتمي، أيحقّ لأحد منّا، أمام ربّه، أن يحكم على أخيه بأنّه متآمر وأنّ نيّته شرّيرة؟ كيف تعرف نيّة قلبه؟! هذا ادّعاء وتجنّ! وحده الله علاّم القلوب! وروح الله العارف بمقاصد النّاس لا يكشف ما يعرف لأنّه محبّة وليس فضّاحًا، وإذا ما كشفه فبقصد البنيان وللقدّيسين فقط! أمّا الّذين يطعنون بالنّاس على أساس أنّ نواياهم غير سليمة، ويتعرّضون لهم بالشّتم واللّعن والأذيّة، فإنّ الرّوح الّذي يفعل فيهم لا يمكن أن يكون روح الله!
خلاصة القول، يا أخي، ويا شاتمي، أنّك تتعاطى أمورًا حسّاسة وخطرة على خلاصك! أنت لا يمكنك أن تؤذيني! أما قرأتَ الذّهبيّ الفمّ القائل: لا يؤذي الإنسانَ إلاّ الإنسانُ نفسَه متى استسلم للخطيئة؟! خوفي عليك، يا أُخيّ، ويا حبيبي، أن تؤذي نفسك! فكلّما ساهمتَ في إشاعة إساءاتك بين النّاس كلّما جمعتَ، من حيث لا تدري، جمرَ نارٍ على رأسك!
صدِّق، صَدَقك الله، ما يعصف بروحك ليس من الله بل هو أرضيّ نفسانيّ شيطانيّ، فإنّه “حيث الغيرة والتّحزّب، هناك التّشويش وكلّ أمر رديء، وأمّا الحكمة الّتي من فوق فهي أوّلاً طاهرة، ثمّ مسالمة، مترفّقة، مذعنة، مملوءة رحمة وأثمارًا صالحة، عديمة الرّيب والرّياء” (يعقوب 3: 15 – 17)! فحذار التّمادي في العبث!