لا يكفي أن يكون الإنسان ذا عقيدة صحيحة كي يكون صاحب إيمان صحيح. فالعقيدة إنْ لم يمارسها صاحبها في حياته اليوميّة تصبح مجرّد نظريّة غير قابلة للممارسة، ميتة لا تنفعه شيئًا. الإيمان الصحيح يفترض حياة متناغمة مع العقيدة، لا انفصالاً حادًّا بينهما. الهرطقة أو الضلالة، إذًا، لا تنشأ من انحراف عقائديّ وحسب، بل تنجم عن انحراف أخلاقيّ أيضًا.
فما معنى أن يؤمن الإنسان بعقيدة التوحيد، وهو يشرك بالله في سلوكه اليوميّ؟ كيف يكون توحيديًّا وهو يعبد شهواته وخطاياه؟ يعبد المال، يعبد السلطة، يعبد الجنس، يعبد ذاته… ويسعى كلّ جهده لإشباع رغباته، ولو داس على البشر في طريقه إلى تحقيق ما تصبو إليه نفسه من أفعال.
يقول إنّ الله هو الرازق، فيما يمضي حياته يكدّس الأموال خوفًا من غدر الآتي من الأيّام. يقول إنّ الله هو الكريم، وفي الآن عينه لا يهمّه البتّة أن يتّصف بالبخل. يقول إنّ الله رحيم، ثمّ يقضي أيّامه لا يلتفت إلى فقير محتاج إلى مَن يمارس تجاهه فعل الرحمة.
يقول إنّ الله هو الخالق، فيما يسعى في الأرض يعيث فيها فسادًا وقتلاً وتدميرًا. يقول إنّ الله قد سلّمه الأرض أمانةً فلا يتوانى عن التفريط بها وعن جعلها جحيمًا لا تطاق. يقول إنّ الله هو ربّ الحياة، ثمّ يستبيح القتل والذبح وتقطيع الأوصال. يقول إنّ الله خلق الإنسان “على صورته ومثاله”، وخلقه “في أحسن تقويم”، ثمّ يجعل الإنسان غرضًا لمتعته المنحرفة.
إنْ شئنا إيجاز الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الإشراك بالله لقلنا إنّها، بالإضافة إلى الكبرياء أصل الشرور كلّها، الإسراف في الملذّات الجسديّة، والسعي إلى المجد الباطل، والرضوخ للمال، وجشع السلطة.
تصبح الضلالة أشدّ وطءًا عندما يجعل القادة الدينيّين والروحيّين، من أدنى السلّم إلى أعلاه، أنفسهم فوق الحساب، أو عندما يستبدّون بأتباعهم في كلّ مسائل الحياة، فيسيطرون عليهم وعلى مشيئتهم وقرارهم، ويقودونهم كمَن لا حول ولا قوّة له. فهؤلاء يملكون السلطة والمال، وإنْ انساقوا إلى شهواتهم وملذّاتهم وإلى سراب المجد، فتلك هي الطامّة الكبرى.
حينئذ، يتحوّل القائد الدينيّ والروحيّ، لدى أتباعه المخلصين له، إلى صنم طاهر نقيّ معصوم عن الخطأ. ويخلط بعضهم ما بين الإخلاص لله والإخلاص لزعيمه الدينيّ، فيما الأمران لا يلتقيان بالضرورة دائمًا، فـ”لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”.
عبادة الشخصيّة ليست حكرًا على المتعاطين بالشؤون السياسيّة، بل تنسحب أيضًا على العديد ممّن يزعمون أنّهم توحيديّون لا يعبدون إلاّ الله وحده. تحلّ أيقونة المرشد وخطبه وعظاته وأقواله وأناشيده مكان الله والأنبياء والرسل، حتّى أنّ بعضهم ينسب إلى معبوده اجتراح العجائب والخوارق والآيات البيّنات.
المرشد الدينيّ عليه أن يصل بأتباعه إلى الله، لا إلى نفسه. ليس هو المبتغى، بل الله وحده هو البداية والنهاية. الله هو الأوّل والآخر، هو الألف والياء، هو الكلّ في الكلّ. البدعة الكبرى هي حين يجد المرشد نفسه هو الغاية، فيهلك هو، ويُهلك معه مَن انجرّ إلى عبادته الضالّة.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،22 كانون الثاني 2014