“فوق كلّ تحفّظ احفظ قلبك يا بُنيّ لأنّ منه مخارجَ الحياة”، قالت الأمثال (4: 23). في كلّ ما يأتي عليك من ظروف وأحداث كلُّ شيء يَعبر وكأنّه لم يكن. ليست حربٌ تدوم إلى الأبد، ولا كارثةٌ، لا ضيقٌ ولا ألمٌ. الكلُّ يتغيّر. الكلّ يزول وكأنّه لم يكن. واحد، فقط، من جهتك كإنسان، يبقى ويثبت: قلبُك، إذا حفظت الأمانة لربّك! هذا وحده، في يدك أن تحفظه! طبعًا، ليس من دون نعمة الله، ولكنْ، ليس من دون طَلَب عميق كلّيّ منك، أوّلاً. كلُّ شيء آخر تعمل من أجله لا يدوم تأثيرُه إلاّ إلى حين. بعد ذلك ينحلّ ويفنى أثرُه! الكلّ باطلٌ وقبضُ الرّيح. ليس تحت الشّمس جديد، قال سِفر الجامعة. أمّا القلب فمركبتُك إلى الحياة الأبديّة. كلمةٌ، في قلبك، تُدخلك إلى هناك، وكلمة تدفعك إلى هلاك أبديّ! ما تجمعه في عمرك، في مستوى القلب، قد يضيع في لحظة، وما يكون فاتك في أيّامك قد تعوِّضه في لحظة أيضًا. الغرور يبدِّد الحصاد والتّوبة تعيد لك كلّ حصاد. والحصاد الحقّ هو النّعمة الإلهيّة. لا حصاد سواه يدوم. بالأمانة والثّبات تأخذ بَرَكة فوق بَرَكة. وبالتّوبة تُعطى لك كلّ بَرَكة!
على هذا، لا بأس إن خسرتَ كلّ شيء، لا بل تخلَّ، إراديًّا، عن كلّ شيء! لا تجعل قلبك في شيء! واحدٌ يكفيك! أليست الحاجة، كما قال المعلِّم، إلى واحد؟ إليه الحاجة! وحده الكافي والكفاية! كلّ ما عداه يصرفك عنه إن صار لك في قلبك همًّا! أريدكم أن تكونوا بلا همّ، قال. كلّ الحكاية، يا صاح، هي القلب إلى القلب، وما عدا ذلك أرضيّة، خلفيّة، تعيها العينُ ولا تقف عندها. تتخطّاها. كلّ ما سوى القلب حديقةٌ، جنّةُ قلبٍ وليست له مَبيتًا. لا يلتمس القلبُ المبيت إلاّ في القلب! لذا لم يكن لابن الإنسان مكانٌ يَسند إليه رأسه على الأرض. مسنده كان قلب يوحنّا، ومسندُ يوحنّا/البشريّة كان السّيّدَ قلبَه! لذا تركه يتّكئ على صدره. باتّكاء يوحنّا تساند السّيّد والبشريّة الّتي أحبّ، الصّدر إلى الصّدر، والخلجة إلى الخلجة، فصار النّبض إلى النّبض تكتكات تتداخل من أبديّة إلى أبديّة إلى الأبديّة!
أنّى يكن واقعَك الآن – صعوبات، همومًا، مشكلات، آلامًا، مخاوف – فلا ضير عليك. المهمّ ألاّ تغرق في ما تواجه، ألاّ يتآكلك القلق في ما تعاني، ألاّ تستسلم! كلّما اشتدّت الأزمات عليك كلّما كانت المدعاة لديك إلى التّسليم لله أوفى! الموجة إن علَت وزأرت في وجهك لا تواجهنّها بصدرك لئلاّ تمزّقك! لِقواك حدودها! طوبى لمَن عرف حدّه ووقف عنده! تنزل من تحتها. تتركها تعبر فوقك. الضّيقات الأشدّ هي لتُسلم أمرك لربّك! أنت أوهى! معلّمك، بتدبيره، يعبِّرك بما يفوق طاقتك لتعرف نفسك، على حقيقتها، وتعرفَ أن تجعل نفسك بين يديه! هو يتولاّك! تجسّدَ ليتولاّك. ليعطيك أن ترى وتلمس أنّه إليك، حريصٌ عليك، آخذ عنك، لأنّك حبيبُه ولو لم تُبالِ! يشاؤك أن تعرف أنّه حافظك لا لأنّك صالح، بل لأنّه هو الصّالح. لم ياتِ للصُّلاّح، لأنّه ليس صالحًا إلاّ الله. إلهك حبيبُك مجّانًا! ليس له فيك مأربٌ! لا يمكنك أن تقدِّم له شيئًا! لذا تلقاه لا يطلب ما لك بل إيّاك! أعطني قلبك يا بنيّ! الحبّ لا يفرح بالأخذ بل بالعطاء. العطاء في الحبّ هو الأخْذُ الحقّ! فقط في الشّدائد تنمو إليه! في اليُسر، النّمو أبطأ والتّجارب أقسى! في العُسر تلقاك تصحو تلقاءً، تنشدّ إليه لأنّك تشعر بالنّقص في الأمان! تصرخ العون! تلقاك مائلاً، عفوًا، إلى الإيمان حيث لا أمان إلاّ بالإيمان! لا يسمح المولى بالآلام جزافًا. هذا تدبير يمين العليّ. ولو قَصُر الإنسان عن الإدراك ومالت نفسه عن الوجع، فإنّ ربّك يدري أنّك لست لتأتي إليه إلاّ في الضّيق! واقعُك الكيانيّ يفرض. ربّك كان، بدءًا، حبيبًا، فصار، بخطيئة آدم، طبيبًا! مَن تراه يُقبل إلى الطّبيب إلاّ مريضًا! المرض، واأسفاه، بات ضرورة لطلب بُرء النّفس من مرض الغربة عن فردوس الله! بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السّموات! هذه مفارقة الخطيئة في قلب الإنسان! في الرّاحة تميل إليها، ولا تميل عنها إلاّ بالتّعب! مَن تُراه يطلب المتعة إذا ما كان في الألم؟! الضّيق، روحيًّا، دواء اللّذّة! ثمّة خللٌ، داخلَ الإنسان، أنّ الحياة لا تُستردّ إلاّ بالموت، وأنّ العافية لا تُستردّ إلاّ بالمرض، وأنّ الرّاحة لا تُستردّ إلاّ بالتّعب! لا أتكلّم عن حياة الجسد بل عن القلب. ولا أتكلّم عن عافية البدن بل عن الكيان. ولا أتكلّم عن الرّاحة الجسدانفسيّة بل عن إقامة روح الله فينا! ليس المبتغى أن نبقى في حدود المنظورات كأنّها وحدها الموجودات، بل نطلب اللاّمنظورات لأنّها هي الثّابتات في حياة الإنسان! نرى ما لا يُرى! عينُنا عليه. ليس الإنسان جسدًا بل في الجسد! لذا ما يُرى إنّما يشير ويعبِّر عمّا لا يُرى! ما لا يُرى ليس إفتراضيًّا، بل ما يُرى يمسي قائمًا على افتراض مغلوط ما دام الإنسان يقف، قطعًا، عند حدود الأحاسيس والمحسوسات! الثّابت للإنسان هو الله، والثّابت في الإنسان هو قلبُه؛ وكلّ ما عدا القلب لغتُه، أو يستحيل الإنسانُ كتلةَ أوهام وضلالات!
وما العودة إلاّ للقلب. يأتي ما يأتي، لا همّ! كلُّ شيء في يد ربّك! ليس شيء قائمًا في ذاته ولا يتحرّك من ذاته! لا عشوائيّة! حتّى جميع شعور رؤوسكم محصاة! كلّ ما يأتي عليك، حتّى أتفه تفاصيله، مدروس لديه! لا حاجة لأن تفهم! غبيًّا تكون إذا حاولت أن تفهم! تدبيرُ ربّك أكبر من عقلك! طرقي ليست طرقكم، قال ربّك! أنت فقط تقبل وتجعل عقلك خادمًا لقبولك! الإنسان كائن إيمانيّ لا عقلانيّ! هذا تركيبُه! القائل بأنّ الإنسان كائن عاقل يستمدد قولته من غباء الخطيئة! الحقّ أنّ الإنسان كائن إيمانيّ، يَعْقِل إيمانيًّا، وله من قوى النّفس والجسد أبجديّة إيمانيّة! القلب هو المحور! كما يضخّ في الجسد دمّا، يضخّ للنّفس والعقل والجسد روحًا! والرّوح يستمدده، بالحبّ، من فوق! إذ يصير الكلُّ، بالخلق، من فوق، ليصير الكلُّ، بالنّعمة، إلى فوق! هذا سبيل الإنسان من التّراب إلى الخلق إلى الموت إلى النّعمة إلى الحبّ إلى التّألّه إلى الحياة الأبديّة!
الجسد والنّفس، اليوم، مترضّضان بالضّيق، والعقل في حيرة! لكنّه، في النّعمة، أوان الرّضى! ما كان ربُّك ليلقيك في الشّواش إلاّ ليلقيك مُنقّى في الأتون، مهيّئًا للمخازن السّماويّة! ماذا تقول يا نبيّ الله إرميا؟ أنت عاينتَ في شعبك ما هو أشدّ ممّا نعاين! ملأوا كأس غضب الله حتّى صرخ العليّ بإرميا: “لا تصلّ لأجل هذا الشّعب للخير… وإنْ وقف موسى وصموئيل أمامي لا تكون نفسي نحو هذا الشّعب! اطرحهم من أمامي فيَخرجوا…”! وأوعل إرميا لأنّه وجد نفسه مضغوطًا بين إله الجبروت وشعبٍ واه شرود: “ويل لي، يا أمّي، لأنّك ولدتني إنسانَ خصامٍ وإنسانَ نزاعٍ لكلّ الأرض… وكلّ واحد يلعنني…” إنّها الغربة القصوى عن حقّ الله! عناثوث الخطيئةُ لا تطيق كلمة الله، بعدُ، وتنادي بموت! لكن كلمة الله باقيةٌ قائمةً في فاه إرميا، رغم كلّ وهن حامليها، والرّبّ الإله يصرخ: “أجعلُك سور نحاس حصينًا، فيحاربونك ولا يقوون عليك”! ويترنّح إرميا، في كلّ الصّادحين بكلمة ربّهم، بين وهن الأوصال وقوّة الرّجاء بالله! يوصلكم ربّكم إلى حافة الجبل ولا تهوون! وتسيرون على سلك فوق واد سحيق ولا تقعون، إلى أن يتكمّل قصد العليّ ويعود، بلا انفعال النّاس، ليقول عن شعبه: “ها أيّام تأتي… أُرجعهم فيها إلى أرضهم الّتي أَعطيت آباءهم إيّاها…”.
حتّى ذلك اليوم، وسْط ألسنة اللّهب، تندلع عليّ، قال شعب الله، قطيعُه الصّغير، أَلْزَم كلمتك، وإن تزعزعتُ تثبّتني، ولساني ييبس من جفاف رطَب فمي وترداد قولي لإلهي: “إشفني يا ربّ فأُشفى. خلِّصني فأخلُص لأنّك أنت تسبحتي”!
قلبي موجوع فيّ، قال الّذين لك، إلى أن يعود القلب إليك! إلى مَن نذهب إلاّ إليك! قم يا الله واحكم في الأرض لأنّك ترث جميع الأمم!