أن يؤلّب المرء بين الناس، لهو أن يرمي من قلبه مَن جاء، ليجمع “أبناء الله المتفرّقين إلى واحد” (يوحنّا ١١: ٥٢). كلّ المسيحيّة، فكرًا وحياةً، أن يجمعنا الربّ إليه، وأن نخدم هذا الجمع في حياتنا كلّها.
إذا نظرنا إلى مجتمعنا نظرةً فاحصة، لا يفوتنا أنّ أعلى ما يشغل أهلَهُ أن يتكلّموا بالسوء بعضُهم على بعض. كلّ الناس يكاد هذا يكون شغلهم الشاغل. وهذه، من دون أيّ إدانة، هرطقة حقيقيّة. لا لأنّ الهراطقة، على مرّ العصور، سعوا إلى أن يستدرجوا الناس باعتمادهم تشويه معتقدهم، بل لكون هدف أيّ هرطقة تمزيق كنيسة الله الواحدة. وهذا يعني أنّ مَن يأخذه كلام السوء على سواه يجب أن يعرف أنّه يخالف المسيحيّة التي هي عيش البرّ، أي يخالف وحدة الكنيسة التي فداها الربّ بدمه. لا يعني شيئًا، إن كانت حياتنا خاطئة، أن نعرف فكر كنيستنا. فالمؤمن الحقّ هو مَن يسلك بالحقّ. لا يتصرّف المؤمن كما لو أنّ الله لا يرى. كلّ الخطايا أن ننسى أنّ الله يرى، و”يعرف كلّ شيء”.
حتّى لا يمرّ عمرنا من دون أن نجدّد حياتنا، يجب أن نذكُر، دائمًا، أنّ الله يرى، ويملك كلّ دواء منقذ. وخير دواء، سلّمنا الله إيّاه لنشفى من كلّ معصية نرتضي أن تقتلنا، أن نقبله متى نادانا بإخوتنا، ولا سيّما الذين هم “حارّون بالروح”. فالإخوة، إن طلبنا عونهم أو وَجَدَنا أحدُهم نحتاج إليه فقدّمه من دون طلب، قادرون على أن ينتشلونا من أيِّ جبٍّ مهلك. الإخوة الإخوة، هم مرآة قلوبنا التي يريدها الله صافيةً كالبلّور. كلّنا يمكننا أن نعلم أنّ ثمّة أناسًا، يحيون بيننا، ينتظرون أن يكلّمهم الله من فوق الغيوم. وسيبقى الله، الذي شاء أن يخلّص الإنسان بالإنسان، يذكّرنا بأن نقبل كلامه بعضنا من طريق بعض.
لمّا حكم تراثنا أن نعترف بذنوبنا أمام الإخوة المعتبرين، أراد أن يعلّمنا، إلى كون الاعتراف عملاً يقوده روح الله، أن تكون قلوبنا طريّةً أمام أيّ نصح يأتينا من أيٍّ كان. فحياتنا الكنسيّة كلّها، أجل كلّها، موضعُ جدّتنا. وأنت، إن انخرطت في جماعة الله، يجب أن يحمل انخراطك معنى أنّك تطلب الشفاء من أمراض حملتها معك، أو ظهرت فيك. لم يبالغ الأكابر الذين وصفوا الحياة الكنسيّة بمستشفى. ولا يجوز أن نرى في هذا الوصف مبالغة. إن لم تكن الحياة الكنسيّة مركز استشفاء، فيكون الربّ جاء، ليدعو الأصحّاء. وهذا يخالف أنّه قال: “ما جئت لأدعو الأبرار، بل الخاطئين” (مرقس ٢: ١٧). هذا، في شكله ومضمونه، يوحي أنّ الجماعة تضمّ أشخاصًـا زرعهم ربّهم على دروبنا، ليساعدونا على التخلّص من كلّ عيب نعلم أنّه يتعبنا أو لا نعلم. هذه قيمة أيّ جماعة يعنيها مجد الله. وهذا يجب أن يعني لنا أنّ حياتنا الكنسيّة تفترض أن نفتح آذاننا جيّدًا لما يقوله الإخوة جميعًا، وأوّلهم الكبار منهم. وأن نفتحهما ولو شعرنا بأنّ ما يقولونه لا ينطبق علينا دائمًا. فلقد بيّن تراث برارينا أنّ المؤمن هو مَنْ يفضّل أن ينصحه إخوته، ويوبّخوه، على أن يغبّطوه، ويمدحوه. ليست الجماعة الكنسيّة أناسًا يشغلهم الغنج والمسايرة. الجماعة جدّيّة في موافقتها الله الحيّ، وتاليًا في محاربتها شهوات مَنْ “كان منذ البدء قتّالاً للناس” (يوحنّا ٨: ٤٤).
لا أريد أن أستغرق في الكلام على الاعتراف. لكن، ما دمت ذكرته، أودّ أن أسجلّ رجاء. أرجو أن نرتقي جميعنا إلى أنّ التوبة والاعتراف سرّ لا يُختزل بحديث مع الكهنة (كما لا يتمّ من دونهم دائمًا)، بل يخصّ حياتنا الكنسيّة كلّها. كيف حصرنا ممارسة هذا السرّ بالكهنة وحدهم؟ إذا تركت قرار البطريرك نكتاريوس في القرن الخامس، فيكون فصلي في سؤالي صعبًا عليَّ. أمّا الكنيسة، فليست عضوًا واحدًا، أي ليست كلّها شخصًـا كُلّف، وحده، أن يسهم في حثّ الأعضاء الباقين على دوام حياة الطهر. كلّ أمّة الله، هذا تكليفها. لا تستطيع أمّة منسوبة إلى الله أن تنام على خطأ يهدّد عضوًا من أعضائها، أو تحيا تكتفي بمشاهدته. وهذا يعني أنّنا لا نقدر على أن نتعامل مع أيّ خطأ ظاهر كما لو أنّنا لا نراه. إن فعلنا، نكون، عمومًا، من حيث ندري، شركاء فيه. ولا ينفعنا أن نبرّر شركتنا باعتبار أنّ المسؤول عن صحّة الحياة، في الجماعة، شخصٌ آخر. المسيحيّ، واعيًا، دوره أن يبعد الخطأ، ليس عنه فقط، بل أن يحاول أن يبعده عمَّن يشاركونه في التزامه أيضًـا، والناس جميعًا إن أمكن. لا تحتمل المسيحيّة أن نعلّي أمرًا، أيًّا كان، على سيادة الحقّ. لست بهذا أجزم أنّ مَن تعنيه استقامة أخوته سيقبل إخوته منه ما يقوله لهم دائمًا. فالواقع يبيّن أنّ النصح يستقبله الكثيرون كما لو أنّه اتّهام لئيم. لكنّ الله، على أخطاء الواقع، ينتظر منّا، كهنةً وعوامّ، أن نعمل، في غير وقت، على أن تبقى الكنيسة، بكلّ أعضائها، مستشفى حقيقيًّا.
هذا كلّه يعني أنّ الحقّ يأبى أن نهمل خطايا مَن يجب أن نحبّهم أنقياء. فهذا لا يسيء إلى بشر فقط، بل إلى تكليفنا خدمة وحدة الكنيسة أيضًا. كلّ هدف حياتنا أن نخدم وحدة كنيستنا. وأيّ خطيئة نقبل أن تبقى، تفرّق. تفرّق، وتقتل. هذا لا يعني أنّ الجماعة سهلة الانصياع إلى الشرّ. لكنّ تزوير الحقيقة، في مجتمع تافه، قد يغري. وتزويرها، في جماعة تضمّ ضعفاء وجددًا، قد يدفع بعض الذين لم يتنصّروا حقًّا، إلى التحزّب، أو إلى شرّ إنكار مشيئة الله الحيّ الذي جعلنا أمّةً واحدة، ويريدنا واحدًا أبدًا.
إن حافظنا على وحدة الكنيسة، نكون رعيّةً تفهم أنّ الربّ راعيها قد شفاها بجرحه (أشعيا ٥٣: ٥)، لتنحر كلّ شرّ يريد أن يمزّقها، وتستشرف، في حيّز هذا الوجود، وحدة ملكوته الأخير.