في بيت صغير في شارع “ليزنايا” من ناحية “ديفييفو” شمالي روسيا، تُحفظ اليوم رفات القدّيس سيرافيم (ساروف). هناك تعيش راهبة بالإسكيم الكبير، ٱسمها “مرغاريتا”… لسنين طويلة لم يكتشف أحد أنّها راهبة بالسّر… كان النّاس يسمّونها “الأم فروسيّا” أو فقط “فروسيا”.
نشأت الرّهبنة سريًّا في روسيا أثناء الاضطهاد الشيوعي للكنيسة في القرن العشرين. كان الرّهبان والرّاهبات يأخذون نذورهم الرّهبانيّة ويعيشون في العالم ويلبسون ثيابًا مدنيّة ويعملون في وظائف مدنية اعتيادية. وكان الأب الرّوحي أو المعرّف وحده يعرف بنذورهم وأسمائهم الجديدة. فكانوا مثلاً، حتّى عندما يتناولون القدسات يساهمونها ذاكرين أسماءهم المدنيّة. ثم تدريجيًا بعد مرور زمنٍ على الحكم الشيوعي، بدأت فترة جديدة في تاريخ الكنيسة الرّوسية: أخذت الكنائس والأديار تفتح مجدّدًا، ومعها أخذت فكرة أخذ النذور سريًّا تزول شيئًا فشيئًا حتّى فقدت معناها.
اعتقد الجميع أنّ “الأم فروسيا” مجرّد مبتدئة كانت في “دير ديفييفو” السّابق. وهي لم تنفِ ذلك لكنّها كانت تجيب بصراحة على كلّ الّذين يسألونها عن ماضيها… لم تبح باسمها الرّهباني الحقيقي إلا في بداية العام 1990، وذلك ببركة رئيسة الدّير الجديدة الأم “سيرجيا” الّتي عُيّنت لإعادة فتح دير ديفييفو حيث عاشت الرّاهبة فروسيا قبل ثلاث سنوات من رقادها.
دخولها إلى الدّير
عندما كانت “فروسيا” طفلة صغيرة كانت لديها رغبة واحدة ملحّة: أن لا تتزوّج البتة.
كان والدها سكّيرًا عنيفًا… مخيفًا. كان يعود في صباح كلّ يوم ثملاً، وكانت زوجته تنتظره مرتعدة… عندما يدخل كان يطلب أن يتناول طعام العشاء!! فتقدّم له زوجته الطبق… وفي كثير من الأحيان كان ينتهي من الطعام ويمسك بالطبق ويرميه على رأس زوجته، لا فرق إن أحبّه أم لا!.
وكانت فروسيا الصّغيرة تصلّي: “يا ملكة السّموات! أرجوك أنقذيني ولا تسمحي أن أتزوّج البتة!”.
هذه كانت صلاتها الحارّة في كلّ حين، ولكنّها لم تبح بسرّها لأحد، فقط لأمّها.
ذات يوم، عرفت أنّ أحد أقربائها “غريشا” ذاهب إلى “دير ساروف” وعمّتها “ماريا” (ماشا) ذاهبة إلى “دير ديفييفو”. كان كلاهما أكبر منها سنًا، لكنّها توسّلت إليهما أن يأخذاها معهما لكنّهما رفضا. فصلّت بحرارة إلى ملكة السّموات: “يا ملكة السّموات، والدة الإله! إذا لم يأخذاني معهما، فسأهرب!” هذا كان تصميمها. ثم صّلت إلى القدّيس سيرافيم كي يعينها.
ففي يوم عيد، كان والدا فروسيا في المنزل، فتجرأت والدتها وتكلّمت مع والدها:
– أتعلم أنّ غريشا وماشا ذاهبان إلى الدّير…
القدّيس سيرافيم ساروفسكي
– ماذا إذًا؟.
– لماذا لا نسمح لـ”فروسيا” أن تذهب معهما؟.
– ماذا؟ هل فقدت صوابك؟.
وساد صمت رهيب… ثم فجأة ٱستدار الأب ناحية فروسيا وقال لها:
– فروسيا! هل سمعت ما قالته أمّك؟.
– نعم
– إذًا؟.
– لا مانع لدي، من الذهاب…
هذا كلّ ما قالته، ثم صمتت، كانت ترتجف من الدّاخل وتصلّي لملكة السموات. لكنّ والدها أخذ يفكّر، لأنّه، ورغم كلّ شيء، كان يخاف الله ومن دون أن يقول أيّة كلمة، قرّر التالي (وقد سرد لها ذلك فيما بعد):
كانت لديه ثلاث بقرات، كان يحتفظ بها لتكون كلّ بقرة مهرًا لبناته الثّلاثة. هذا كان التقليد آنذاك. فأخذ إحدى البقرات الّتي كانت مهرًا لـ”فروسيا” وذهب بها إلى السّوق وفي نيّته أن يعرضها للبيع بضعف سعرها، وإذا ما ٱشتراها أحدهم تذهب فروسيا إلى الدّير ولكن إن استهزؤوا به، فستبقى فروسيا في المنزل. وَصَل الأب إلى السّوق وكان مكتظًّا وكانت هناك بقرات كثيرة جميلة وضخمة بالمقارنة ببقرته. لكنّه ما إن وقف حتّى رأى رجلاً مسنًّا يهرع نحوه لابسًا معطفًا خشنًا وقبعته تميل إلى جهة واحدة. لم ينظر هذا الرّجل لا يمنةً ولا يسرة، ولم يتكلّم مع أحد، لكنّه ٱتجه مباشرة نحو الأب وقال له: “هذه البقرة ممتازة. كم ثمنها؟”. لم يفكّر الأب كثيرًا بل تفوّه فورًا بضعف ثمنها، أي 24 روبل! وكان أقصى ثمن لهذه البقرة 12 روبل! لكنّ العجوز بدا سعيدًا: “حسنًا، خُذ ثمنها!” وتصافحا باليد. أخذ العجوز البقرة، ووقف الأب مذهولاً ممسكًا المال في يده بدون حراك.
عاد إلى المنزل في هذا اليوم ولم يتفوّه بكلمة، وما إن قدّمت له الأم طعام العشاء حتّى سألها: “حسنًا إذًا، هل ستذهب “ماشا” إلى ديفييفو؟”.
– نعم.
– وهل سيذهب “غريشا” إلى ساروف؟.
– نعم.
– وفروسيا؟!.
– هذا يتوقف على… (وصمتت).
نظر والد فروسيا إلى والدتها وقال لها: “احزمي أغراضها!”.
انطلقت المجموعة إلى ديفييفو في الخامس من شهر أيار من العام 1915. كان عمر فروسيا آنذاك 15 سنة.
راهبات من ديفييفو
بعد فترة وجيزة، غادر كلّ من “غريشا وماريا” الدّير لكنّ “فروسيا” ثبتت في ديفييفو، رغم ظروف العيش الصّعبة فيه. إلا أنّها أُجبرت على مغادرته مع كل الرّاهبات أثناء الثورة الشيوعية – كُنّ أكثر من ألف راهبة. فعاشت مع راهبات أخريات في بيت صغير ولكنهنّ اعتُقِلْن بعد حين وكابدن السّجن والأشغال الشاقة والنّفي… كانت “فروسيا” تصلّي وترتّل في كلّ حين، شاكرة وممجدة الرّب… والله حفظها.
* * * * * * * *
دير ديفييفو أيام الأم فروسيا في أوائل القرن العشرين
دير ديفييفو اليوم
في دير “ديفييفو” اليوم، يوجد صندوق يحتوي على أغراض تعود “للقدّيس سيرافيم”، وفيه أيضًا شمعة صغيرة. كانت هذه الشمعة بين الأغراض الّتي كانت تعرضها “الأم فروسيا” على زائريها بين ذخائر أخرى للقدّيس سيرافيم كانت تحتفظ بها في منزلها الصّغير قبل انتقالها إلى ديفييفو في نهاية حياتها. لم يُعِر أحد هذه الشمعة أي ٱهتمام. ولكنّ “الأب تيخون” سألها مرّة ما المميّز في هذه الشمعة، فسردت له الرّواية:
كانت الرّاهبات في الدّير يحتفظن بهذه الشمعة من أيام “القدّيس سيرافيم”. هو أعطاهم إيّاها قبل رقاده وقال لهنّ: “بهذه الشمعة سوف تستقبلن جسدي، لأنّه سيُحمل ويُدفن في ديفييفو. لأنّ رفاتي لن تربض مطوّلاً في ساروف، لكنّها ستأتي إليكن في ديفييفو”.
بعد رقاد القدّيس عام 1833، دُفن في “دير ساروف”. هناك أخذ النّاس يطوّبون ذكره وآلاف الحجاج يتوافدون ليتبرّكوا منه آتين من كلّ أنحاء الرّوسيا. عام 1903، أُعلنت قداسة الأب سيرافيم، ووُضع جسده في كنيسة الثّالوث القدّوس في ساروف في ضريح جميل. عرف المؤمنون بنبوءة حول حدث نقل رفات القدّيس إلى دير ديفييفو، لكنّ الأمر بدا غامضًا، خاصّة مع ٱندلاع الثّورة الشيوعيّة، إذ اعتقد الجميع أنّ بقاياه قد أُتلفت. فظنّوا أنّ النبوءة إنّما هي رمزيّة.
لكنّ “الأم فروسيا” روَت أنّه في العام 1927، قبل قليل من اقفال دير ديفييفو، استقدمت الأم الرّئيسة “ماريا إيفانوفا” جميع الرّاهبات وحملت هذه الشمعة المقدسة بين يديها الّتي كانت قد تُركت لها من قبل القدّيس سيرافيم. وتنبأت أنّ آخر راهبة من المجتمِعاتْ هنا، آخر راهبة تبقى على قيد الحياة، من كلّ اللّواتي سوف يُقتلن ويعذّبن. فإن ثبتت وكانت أمينة للرّب الإله، هذه الرّاهبة ستستقبل رفات القدّيس سيرافيم في هذا المكان، ديفييفو، حاملة هذه الشمعة”.
عندما أخبرت “الأم فروسيا” هذه القصة كانت ما تزال هناك في الدّير مع عشر راهبات على قيد الحياة من هذه المجموعة، وفي كلّ سنة كان الرّقم يتقلّص، ولكنّهنّ كُنّ يؤمنّ بصدق أنّ النبوءة ستتحقّق. في نهاية المطاف، بقيت راهبة واحدة من الرّاهبات الألف اللواتي كُنّ يعشن في الدير إبّان الثورة “الأم فروسيا” وهي الّتي حملت الشمعة أثناء استقبال رفات القدّيس سيرافيم في ديفييفو عام 1991. كان عمرها قد بلغ 91 سنة. وبعد إتمام نبوءة ونذر حياتها، ٱرتحلت إلى أرض الميعاد، إلى ربّها، عام 1997، متمّمة نذورها بثبات وحرص وٱتكالٍ كاملٍ على الرّب يسوع ووالدته الكليّة الطّهر مريم البتول.
المرجع:
Archimandrite Tikhon (Chevkounov) (2013), Père Raphail et autres Saints de tous les jours, Editions des Syrtes (Suisse).