سيدي، هل يلوم الابنُ أباه؟ شكواي إليك أنك الخِصمُ والحَكَمُ.
الخِصمُ لأبنائك جميعاً؛ لأنك صرتَ على جانبٍ من الضعف هو إلى الخطيئة أدنى. ومأخذي عليك أنك تحتمل الأشرار وتزاملهم ولا عهد لهم ولا ضمير، وأنت تعلم لمن هم حلفاء، وأنهم يقوِّضون بيتنا الذي تسللوا إليه خُلسةً. لقد شُلَّت يدك فباتت غير قادرةٍ على حمل سيف الحق، وهم يقهقهون في رقصة الشياطين الكبرى إذ كان لهم ما أرادوه بعد أن أثاروا شهوة المشتهين فانقلبت لمصلحتهم خيانة.
أكتب إليك وقد تركت عائلتنا في مهب الريح. إنها عائلةُ الله العظيمة التي أمست – بسبب اللصوصية من جهة، والجزع من جهة أخرى – بلا قيادة.
قيادةُ أشلاءٍ هذه التي أنت منها بعد أن اجتازتها المحنة وتآكلها القلق. الأشرار وحدهم يجعلونها قيادةً غير تافهةٍ، فإن عندهم الجد ولهم أصول. فقد تعلموا المعصيةَ وفقَ قواعدَ موضوعية، معروفة بأصول، وأنت لم تتعلم أن تجعل فكرك قوةً. لقد ساقوك كما يُساق الصبيان إلى أهدافهم. فإنك – شئت أم أبيت – موضوعياً، حليفهم.
فَشَلُكَ روعةٌ من روائع جهنم، عيدٌ في الجحيم. سياسةُ أعدائك متعةً للذهن، مُنيةً للذوق، خلابةً ورساليتك الألفاظية لا تجذب أحداً.
لقد أظهرتك الأزمةُ عادياً، أقلَ من عادي، رازحاً تحت ماضيك، غارقاً في حاضرك، تتطلع بغَصَصٍ إلى ما يأتي، إلى ما قد يداهمك في إنسانيتك الأليف. أنت تعاني في الصميم ما يعانيه كل مخلوقٍ معذَّبٍ تنتابه الشدة وتهاجمه الرغائب.
ولذا أكتب إليك.
خبرتي للإنسان علَّمتني أن أعرِّيه. فالخطيئةُ لا سِّر لها عندي. فبيني وبينها حَنين. مارستني وتدرَّبتُ على معرفتها في الناس سنين طوال. أمامها ينهار الجميع. ولذا أضحك في سري عندما أراك تخفيها وراء الأقنعة العديدة التي تصطنع. العيوب لا يخفيها برقعٌ. هذه العيوب أوصلت عائلتنا إلى ما نحن فيه من ضيق.
أفهم أنك، مثل كل الخلائق، دميةً بيد الشيطان، ضحيةً من ضحايا هياجه الكوني، صغيرٌ بين الصغار. إذا علوت عرشك، فلا تعلو سوى درجات تُقاس. وإذا استلمت عكازك، فلست بمَلِكٍ. أنت عبدٌ لشهواتك ككل العبيد. ولكنهم دعوك إلى عرشٍ لتتعلم السمو، ووضعوا في يدك الصولجان لتقود نفسك والرعيةَ إلى حيث يحلو لله أن تكونا.
أنا لا أُشكِّكُ فيك إذا لمست معاصيك، فالتحليل يشرِّحك كما يشرِّح الآخرين. هذا لا يعثرني بعد أن عرفت ألاَّ أفتش عن القداسة حيث الناس. السماء ليس ما يشير إلى أنها مليئةٌ بالكهنة أو برؤساء الكهنة.
لعل التجربةَ تزداد بنمو المسئولية، ولعل الذين أوصلوك إلى هذه الرتبة، أبلغوك المقام الذي أنت فيه لشهوةٍ في النفس.
لا ينفعنا الآن أن ننبش الموتى.
أنت الآن هنا، والتراث يقول إنك أبي. الإنسان لا يختار أباه. وقيل لي دائماً أن لك قدسيةً، وأنا أمامك أنحني ولا بد أن أنحني من جديد؛ لأنك تجيء من الذبيحة وتُرفع إليها؛ لأن فاك يتلو كلمات الخلاص، ويديك تلامسُ جسدَ الإله.
أعرف كل ذلك في تمزُّقي ولا أدين. أعرف أن ذلك سيستمر، إن الخطيئةَ ستطلع منك، وخوفي عليك أن تلقى وجه ربك غير تائبٍ.
لا شيء يحلو لي كما يحلو رجوعك، وألمي في هذا أنك لم تُصارع الشَّر، وأنك استسلمت إليه فتحكَّم بك تحكُّم الإخطبوط في الجسد العاري. ومع ذلك أحلُمُ بعودتك. أقول في نفسي: ماذا حلَّ بأبي؟ إن له كليمات عذاباً تنم على أن نفسه عرفت وداعة المسيح، وأنه ولىَّ وجهه شطر الجمال الأبدي. لقد ذهب أبي أيضاً في طرق السوء مع الذين لا إله لهم بعد أن غنَّى الإله. ماذا حلَّ بأبي؟
لقد افترقنا إلى أن تتوب. إلى أن تكتشف بساطة المسيح، بلورية المسيح. كم وددت أن تكون على الجرأة والصدق اللذين اقتطفناهما من معاشرة السيد. ولكنك تخاف. تخشى الناس الذين يُنسب إليهم وجود. تخشى الأشياء التي تحسب أنها فاعلة. أنت علَّمتني أن الحكمةَ في مخافة الله الذي لا نُشرك به سلطاناً في السماء وعلى الأرض. وإذا بك هاجسك السلاطين كأنك نسيت أن “كلَ بشرٍ عشبٌ”. لا أستطيع أن أتلو عليك صفات الله الذي “يجعل الزعماء كل شيء”.
حسبي أن أُذكِّرُكَ محبتك الأولى للمعلم الذي يؤتيك في تعبك قوة، وإذا فقدت القدرة يكثِّر لك الحول فلا تعيى في الطريق ولا تعثر عثاراً.
أدعك الآن لأنك خفت الأشرار، وأنت بالطبع تحسب أنك حفظت العائلة. بالواقع، فَتَحَتَ بابَ بيتنا على مصراعيه للعدو. فتحته ليتربع وكنت مِن طَردِهِ قابَ قوسين أو أدنى، ولكن للشيطان سحره.
ماذا نفعل حتى تجمع العائلة والأولاد جاعوا، وليس من يطعمهم خبزاً؟ المجاعة آنية. من يحتمل مسئوليتها بعد تخاذلك؟ أدعك وحدك أن تتدبر الأمر بفطنتك. أدعك إلى الفطنة التي قادتنا إلى حيث نحن. تجربتي أن أترك لك أبوَّتكَ. لست أنا الذي بعتها لخصوم الدار. أنا ذاهبٌ إلى الصحراء حيث أدعو الله أباً. نزفٌ موصولٌ أنك ضللت. أنك تركتنا نجوع.
العائلةُ شردت بضعفك، ستُتابع سيرها بانعطاف الفادي. جيلاً بعد جيل أهملها أقرانك الذين سمّوا أهوائهم بمختلف تسميات الفضيلة. أعلم أن الذين يبكون يعمِّدون الحياة. قد تردُّك هذه الدموع لو رأيتها. عند ذاك، الذهب الذي أكدر فيك يعود ذهباً مصفى، وتبيِّضُ ثيابك وأنت من جديد على جبل التجلي.
المطران جورج خضر
نقلاً عن: حديث الأحد – النهار – الأحد 18 مايو / أيار 1969م
يمكنكم الاستفادة من خلال قراءة “رسالة ثانية إلى أسقف ” الموجودة على الرابط التالي.