هذه الأيّام!

mjoa Tuesday February 18, 2014 111

قال لي محدِّثي: أنا محبَط وحزين! أين الله؟! كأنّه تخلّى عنّا! وحشيّة مَن يكبحها! فوضى أخلاقيّة عارمة! قتام سياسيّ بابليّ! شبه فلتان أمنيّ! انكماش اقتصاديّ خانق! النّظاميّة المألوفة في مهبّ الرّيح! وأهل الإيمان كخراف لا راعي لها! كأنّها مسيَّبة! ضياع في الدّاخل! عواصف من الخارج! يبدو الأفق، بعامّة، مسدودًا! ويكاد اليأس يطغى النّفوس!

     قلت: نحن، يا أُخيّ، في مخاض! صحيح، في المخاض ألم، ولكن، في المخاض، أيضًا، ولادة جديدة! المسيحيّة، في المسير، ولادات تتتالى وتتنامى وتتجدّد! الفتيل الأسود اليابس الّذي لا طاقة حياة فيه، بحاجة إلى إزالة، والنّفوس إلى تنظيف، ليَكبُر اللّهبُ المخنوق ويسطعَ من جديد! مخازننا الدّاخليّة رطبة عفنة، وحاجتنا ماسّة إلى التّهوئة والأشعّة الدّافئة، حتّى لا تدود!

     وهذا، أيضًا، يا أُخيّ، زمن غربلة! مَن لهم صورة التّقوى لكنّهم منكرون قوّتها، تذهب بهم الرّيح! كلّ ما لا ينفع يستبين ويُلقَى خارجًا! هذا واقع حالنا، نُسبَى إلى “أرض الكلدانيِّين”، كلّما قَسَت قلوبنا، لنُليَّن بالنّار ونَتقوَّم بالطَّرْق ونطهر من الخَبَث! متى ضمر حسُّنا، واستكبرت نفوسنا، وتبلَّدت هممنا، احتجنا إلى معالجة، سَنًّا للحسّ واتّضاعًا للقلب ونخْسًا للهمّة! فلِكي لا نموت في خطايانا، ونغرقَ في تبرير ذواتنا، ويستحيلَ إلهُنا، في فعلِه، فينا، وثنًا، يُسْلمنا إلى مَن يستبينون أعداء لنا! والأعداء يأتوننا من خارج ذواتنا ومن داخلها! فالّذين من خارج ذواتنا يَظهرون لعيوننا وكأنّهم مُرسَلون ليأكلوا شعب الله؛ وإن هم، عند ربِّك، سوى خدّام لخاصّته، للتّنقية والتّقديس! والّذين من الدّاخل تضيُّقٌ في النّفْس حتّى الشّعورِ الكيانيّ العميق بالضّعف التماسَ التّوبة وتواضع القلب!

     الخلْقُ كلّه خدّامُ ربِّك، يُحقِّقون مقاصدَه، يعلمون أو لا يعلمون. لا أحد يستطيع شيئًا ضدّ الله بل من أجله. وحده السّيّد ضابطٌ للكلّ ولا ما هو خارج يده! إسرائيلُ القديم ابنُه البكرُ، بإذاعةِ كلمتِه في الأمم، ونبوخذ راصّر، أيضًا، عبدُه، لتأديب شعب الله بين المطرقة والسِّندان! الابن ابنٌ بمحبّة الغريب والعبد عبدٌ بتهذيب العَصِيّ! لا فضل لابن في ما يعمل، بل في كونه مِن فَضْل ربّه! ولا يُثاب عبدٌ على صنيعٍ حَسَنٍ لم يقصده، لأنّ المدبِّر ربُّك، بل صُنعُه إثمًا يكون عليه، لأنّه رمى إلى إذلال الله وشعبه، ومتى تمَّ قصدُ ربّك أطاح مقاوميه بنفخة فمه حتّى لا تقومَ لهم، من بعد، قائمة!

     لا يُطيع شعبُ الله ربَّه، متى عامله بالحسنى، في النّاس، وحسب، وأسبغ عليه من حسناته طيِّبات، هذا يسيرٌ على النّاس، بل، بالأكثر، متى عامله بالقسوة، لشروره وعناده، فسلَّط عليه مَن يعامله بالظّلم ليذلّه! لذا يعلم أبناءُ العليّ، ذوو الأصالة، في الشّدّة، أن يَرضخوا ويُمسكوا عن التّذمّر وينتظروا بصمتٍ خلاص إلههم! كيف لا وكلّ شيء يعمل معًا للخير للّذين يحبّون الله؟! كان على اليهود، في مصر، أن يخضعوا لمستعبِديهم ولا يقاوموهم، وكذا في أرض الأشوريّين والكلدانيِّين! لا يفتقدنا ربّنا بالتّعزية فقط، بل بالضّيق أيضًا! يبقى شعبه تحت النّير، إلى أن يحين ميعاد إنصافه! ليس الشّعب مَن يَقهر قامعيه، بقوّة ساعده، بل الرّبّ، بطرق هو يعرفها! النّير يكسره لا الموضوع عليه بل مَن وَضعَه! إذا ما كان حُكْم النّاس، في شؤونهم، بناءً على ما يُرى، فحُكْمُ ربّك، وشعبِ ربِّك، إن عَدَل، هو على ما لا يُرى! لمّا يُعْطَ أحبّةُ الله إلا صليبًا، وإلاّ لا يُبلَّغون القيامة!

     يهوذا، إنْ خَضع للكدانيِّين، يُشبَّه بالتّين الجيِّد، في إرميا النّبيّ. ساعتذاك يقول اللهُ في شعبه، في خضمّ الضّيق والجراح: أَجعلُ عينيّ عليهم للخير. أبنيهم ولا أهدمهم. أغرسهم ولا أَقلعهم. وأكون لهم إلهًا لأنّهم يرجعون إليّ بكلّ قلبهم! لاحظْ: يرجعون بكلّ قلبهم! هذا ما يتوخّاه العليّ من تسليمنا لمَن يذلّوننا! لكي نرجع إليه، المرّة تلو المرّة، بكلّ قلوبنا! إذًا، هذا يحدث مرّات! لا يبلغ أحدٌ النّقاوة إلاّ بعد إعاداتِ تنقية! يهتاج البحر لتَخرُج القاذورات من أعماقه. لكن الأوساخ لا تلبث أن تتراكم فيه من جديد فيهتاج، من جديد، ليَنقى من جديد؛ وهكذا دواليك إلى أن يؤخَذ النّاسُ في النّقاوة! الخطايا، في القلب، راسخة، عميقة؛ فقط بهياج التّجارب وحدّة الآلام والثّبات في الأمانة، فيما النّعمةُ تغلِّف الكيان، والمرءُ يقيم في الحقّ، يتحرّرُ أحبّةُ الله، ويصيرون أحرارًا، تنفتح، بإزائهم، أبواب التّحابّ وربِّهم!

     إذا لم يثبت الذّهن في الإلهيّات، وإذا لم يكن القلبُ إلى الأخيريّات، فالمرء ريشة في مهبّ الرّيح، تفتّته ضيقات العمر تفتيتًا! إنّما قَصْد ربِّك ممّا يصيبك من ضيقات ليس العبث، بل أن تخلُص… بما يبدو عبثًا! هكذا أحال مخلِّصُك، في جسده، ما هو من الموت حياةً، وما هو من الألم عزاءً، وما هو من الشّدّة روحًا! فمتى هرب المرء من الوجع ساعة يأتي عليه، يهرب من البُرء! لا مناص من الضّيق للخلاص! نعرف أنّنا أوهى من أن نحتمل قسوة الحياة، لكنْ الّذي اتَّخذنا، زوّدنا، إن فطنّا وثبتنا، بما يقوِّينا ويشدِّدنا حتّى لا نخور، وحتّى، بالضّعف، نقوى ونأتي إلى مراعي الخلاص!

     ما يصيبُنا، هذه الأيّام، جعله ربّك، على إيلامه للبَرَكة، إن كنتَ تدري! بعدما اختلط الأمر على العباد، وصاروا يَحسَبون الضّلال تبصّرًا، والتّفلّتَ حرّيّة، والشّرود فضيلة، بات محتّمًا لهم أن يأتوا على أنفسهم بآلام تزيد. هذا ليس مؤشِّرَ لعنة، بل أنّ ربّك ما عاد يُطيق أن يراك شرودًا! لذا يُسْلمك للوجع حتّى ترتدّ عن الوجع الّذي هو هوى نفسِك، فلا تضيع! ما قال قُدماؤنا عن الضّيقات إنّها افتقادٌ من لدن العليّ إلاّ لأنّ ربّنا، إن لم نشأ أن نصحُو، متى افتقدنا بقبلةِ تعزيته، يفتقدنا بقبلةِ الشّدّة! لا تفهم بقبلة الصّحّة الجيّدة، يقبِّلك بقبلة المرض! لا تفهم بلغة السِّلم، يسلِّط عليك الحرب! ربّك غيورٌ على خلاصك في كلّ حال!

     إلى مَن نذهب، اللّهمّ؟ كلام الحياة الأبديّة عندك!

     ليس ربُّك تخلّى عنّا، بل نحن تخلّينا عنه! نحصد ما زرعنا! والبارّ يتألَّم وشعبَ الله، لأنّها سُنَّةُ المحبّة! أعضاء بعضنا البعض نحن. ليس عضوٌ يعاني إلاّ يعاني الجسد كلّه لأنّه فيه، العضو في الجسد، والجسد في العضو! لعازر مشلوح في الظّلمة وظلال الموت، ومسيحُ الرّبّ يبكي! تظنّ، يا أُخيّ، أنّ المعلِّم غادرنا، لذا تنوجع؟! كأنّك تنسب إليه القسوة! مَن تراه ما عاد يبالي بدموع الآخر، نحن أم ابن الإنسان؟! جراحُ مَن تأبى أن تندمل؟! لا أحرَّ من دمع المحبّة ولا أعمق من جرح الوداد! تبكي على نفسك لتُذنِبَ ربَّك! واحسرتاه، أليس واحدٌ، بعدُ، يبكي على مَن يبكي لعازر البشريّة؟! أَعوِل يا إرميا عويلَ ربّك على شعبه! شعبي أحمق. إيّاي لم يعرفوا. هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين. هم حكماء في عمل الشّرّ. أحشائي، أحشائي! توجعني جدرانُ قلبي! يئنّ فيّ قلبي! لا أستطيع السّكوت! بِكَسْرٍ على كَسْرٍ نودي (إرميا 4)!

     بلى، هذا زمن مخاض وغربلة! ملَّ ربُّك النّدامة! حتّى متى المخاضُ زيفٌ والأحشاءُ لا تلد؟! الأغمارُ ابيضّت للحصاد، لكنّ الزّؤان ملءُ الحقول! ما ليس من بِكْرِ القمح يُلْقَى في النّار! إلى أين تهربون؟! يلحقكم الوجع حيثما حللتم! مَن يهرب من الشّدّة، في الشّدّة، يهرب من الخلاص! لا بديل عن الصّليب في كبد عتمة البشريّة!

     آثامكم عكست هذه، وخطاياكم منعت الخير عنكم!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share