لا عصمة لا لفرد ولا لجماعة، ولا يُسبِغ الرّبُّ الإله هبةَ العصمة على شخص، لموقعه، ولا على جماعة لتقدّمها في الرّئاسة! كلّ نفس تخطأ، وكلُّ كتلةٍ من النّاس! واحدٌ له العصمة: ربّك! ومَن شاء أن يتكلّم فيه وفيهم! هذا غير محدَّد سلَفًا، لا في شخص ولا في جماعة ولا في زمان ولا في مكان؛ وليس شرطٌ بشريّ، أنّى يكن، يستنزل العصمة! الكلمة يقولها العليّ، ساعة يشاء، وفي مَن يشاء، في الكبير أو الصّغير، في البارز أو المهمَّش، في الذَّكَر أو الأنثى، في مَن يقيم في موقع سلطة/ خدمة، وفي مَن لا يقيم! لستَ أنت مَن يحدِّد. هو يحدِّد، ودون معرفة مسبقة منك. دورك، في كلّ حال، السّماع في القلب! ومن السّماع تخرج الكرازة في الحقّ. لا تعرف لا مَن ولا متى ولا أين ولا كيف! نداؤه لك هو بالأولى: مَن له أذنان للسّمع فليسمع!
فقط، مَن رهف، لديه، سَمْعُ الكيان، هذا يلتقط الكلمة ويشهد لها! هؤلاء هم أمّة الأنبياء! كلُّ المؤمنين، في المبدأ، معطًى لهم أن يسمعوا وأن يشهدوا. يسمعونها، الكلمةَ، ممَّن يتكلّم الرّبّ الإله فيه أو فيهم مباشرة، بروحه! كلٌّ، في الظّاهر، يمكن أن يدّعي المعرفة. بشريًّا، لا معيار! ليس بإمكان أحد أن يتأكّد بقوّة البَشَرة. يخمّنون! فقط، مَن له روح الرّبّ يتيقَّن ويشهد للحقّ! يصدّقونه أو لا يصدّقونه؟ هذا أمر آخر! فإن لم يصدّقوه تركهم ربّهم يصدِّقون الكذب! وإن صدّقوه استبان روحُ الله فيهم في أوانه. واحد يتكلَّم بروح الرّبّ وآخر، إن سمع، يسمع بالرّوح عينه! لا يترك الرّبّ نفسه بلا شاهد! يعرف الرّبّ الإله مَن هم منه وله! ويعرف كيف يمدّ كلمته مهما حلكت الأوقات. السّماء والأرض تزولان، وأمّا كلامي فلا يزول! الكنيسة باقية إلى قيام السّاعة مهما اشتدّت أعاصير الإثم في وجهها! أبواب الجحيم لا تقوى عليها! هذا عند قوم عثرةٌ، وعند آخرين جهالة، أمّا عندنا فسرّ الحضرة الإلهيّة بين النّاس، السّرّ الّذي يفوق إدراك العالَمين! أنّه موجود؟ هذا لا شكّ فيه! وأنّه فاعل؟ هذا مؤكَّد! وأنّه وحده، ضامن كنيسته واستمرارها؟ هذا ثابت! وأنّ كلمته لا تعود إليه فارغة، ومقاصدَه تتحقّق لا محالة؟ هذه بديهيّة روحيّة! وأنّه بتجسّده اتّخذ الإنسان إلى الأبد، وليس في وارد التّخلّي عنه؟ هذا حدث مرّة وإلى الأبد ولا ما يغيِّره!
فقط، مَن عرف أن يُفرغ نفسه ويأخذ صورة عبد، يَنزل روحُ الرّبّ عليه، قولاً أو سمْعًا أو الاثنين معًا. هكذا يقتني ابن الإنسان روحَ تمييز الإلهيّات وتعاطيها. تكلَّم يا ربّ فإنّ عبدك يسمع! إفراغُ الذّات أن تدرك، في عمقك، أنّك غبيّ ولا معرفة عندك. أن تنبذ مشيئتك وأناك وما لك كأنّه السِّقط. ترابٌ أنا ورماد! مَن أنا لأقف أمامك، ربّاه! سلطتك، إذ ذاك، خدمتُك! ومجدك في أن تعرف خزيك! وقوّتك في أن تدرك مقدار وهنك! نَفَس ضئيلٌ أنا وحفنة طين! في تواريك، في عمق ذاتك، توجد! وفي كونك لا تلتمس شيئًا، مهما تفه، إلاّه، وجهًا يطالعك في كلّ آن ومكان! أن تُفرغ ذاتك سيرورةٌ تتواتر! لستُ شيئًا ولا أطلب شيئًا ولا أبالي بقنيةٍ وقِبلتي الموتُ عن نفسي، كلَّ يوم، حتّى تقبضني إليك! حسبي أن تراني وأن أعرف أنّك أحببتني! أيّها الرّبّ يسوع، تعالَ!
العصمة بديهة لدى مَن أفرغ ذاته لأنّه يصير هيكلاً لله، سماءً، عليه تنزل وتصعد ملائكة الله! حضور ربّك كلّه عصمة لا أثر فيه لِهنّة!
على أنّ العصمة تستدعي، في الجماعة، الشّورى. في تاريخنا، قلّما تكلّم ربّك، إلاّ في الأزمات، على نحو صارخ، في واحد! ذاك الواحد، كان، ساعتذاك، الكنيسةَ، صوتَ ربِّك! مثلُ ذلك القدّيس أثناسيوس الكبير، والقدّيس مرقص أسقف أفسس! ليست الكنيسة عددًا بل روح يتجلّى في الواحد أو في الكثرة، سيّان! الكنيسة، أصلاً، ربُّك وفيه، فمَن انوجد في المسيح انتمى إلى الكنيسة، روحًا وحقًّا!
في ما عدا الاستثناء، يتكلّم ربّك في الجماعة. غير صحيح أنّ مَن أَمّ الجماعة صار كلمةَ الله إليها. الأوّل عندنا خادم. لا رئيس علينا. لنا رأس واحد، في كلّ حال، كان وكائن ويكون: مسيح الرّبّ! لذا إن كنّا فعلاً إليه كان معنا وفيما بيننا! والرّاعي/الخادم، عندنا، هو في الجماعة وبإزائها في آن! ليس فوقها بحال! هو إلى ربّه من خلال الجماعة وليس من دونها! لا يستمدد سلطةً من فوق بمعزل عنها، ولا هو قائم في ذاته! إلى إمامة الصّلاة والإشراف على خدمة التّعليم والمحبّة، يطالعنا على صورة السّيِّد! هكذا ينبغي أن يكون. موهبته أن يصير كذلك؛ أن يحقِّق نعمة الله فيه في هذا الاتّجاه! ليس هذا آليَّ الحركة فيه. يتجسّد فيه أو لا يتجسّد، هذا رهنٌ بإفراغه ذاتَه التماسَ تملّئه من ربّه! هنا يتمثّل أهمُّ ما في موهبة ربّه له! في إطار الجماعة، في كونه اللاّقط، بامتياز، لالتماعات روح الرّبّ، في تعاطي الكنيسة الشّورى!
ما معنى ذلك؟
لا نحن ديمقراطيّو التّوجّه في الكنيسة ولا ثيوقراطيّون! سيرتنا الشّورى في مسيح الرّوح والحقّ! كلٌّ قابل، في المؤمنين، لأن تنزل عليه كلمة الله، ولأن يقول الكلمة الفصل في أوانها. موهبة الأوّل، بيننا، هي الإصغاء إلى ما يمكن أن يقوله الرّوح في الإخوة وإلى التقاطه والإشارة إليه وإبرازه وجمعه وصياغته لمنفعة المؤمنين ودفعِه فيما بينهم، بحيث يبقى الرّوح في الكنيسة هو المريدَ والفاعلَ من أجل مسرّة الله. ليس مبتغانا أن يقول الأوّل فينا كلمته، مهما كانت، بل كلمةَ الله! هذا لا يحدث ولا يمكن أن يحدث إلاّ بإفراغ واعٍ عميق للكيان، على النّحو الّذي بيّنّاه أعلاه. القلبُ المُفرَغ من ذاتيّة المسرى وعبادة الأنا، هذا وحده يكون مهيّئًا لتحسّسِ التماعات الرّوح والتقاطها وجمعها والنّطق بها. صحيح أنّ الأوّل هو المتفوِّه بالكلمة الفصل، ولكنْ بعد أن يكون قد سمعها ولملمها من روح الرّبّ الفاعل في الإخوة! المعلِّم، عندنا، نبيّ في آن، يستمدد الخطاب لا من التّراث الموروث المتناقَل وحسب، بل، أوّلاً، من التّراث الحيّ المعيش، الّذي هو عمل الرّوح القدس في الكنيسة. بغير انفتاح القلب على الرّوح المتحرِّك في القلوب، تقتصر علاقتنا، بعضنا بالبعض الآخر، على ما هو أفقيّ، على ما هو من التّاريخ الصِّرف. وهذا، إن اكتفينا به، نستحيل نَقلَةً لماضٍ، لما فات ومات. إن لم نشرئب إلى الرّوح فائضًا علينا، في كلّ آن، في استشراف دؤوب لما هو عموديّ، في استحضار وإحياء واستحياء لما خبره آباؤنا، بالرّوح والحقّ، فإنّ ما نتناقله، إذ ذاك، لا يعود في إطار شركة الحياة الإلهيّة الإنسانيّة المتجدِّدة، بل في إطار الأطلال النّفسيّة والفكريّة الإيهاميّة المائتة! السّاجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالرّوح والحقّ. الآب طالب مثل هؤلاء السّاجدين له. الله روح، والّذين يسجدون له فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يسجدوا (يوحنّا 4: 23 – 24)!
الشّورى استنباعٌ متجدّد لروح النّبوّة في حداثات الزّمان والمكان! وحده ربّك قادر أن يقول الكلمة الموافقة الفصل، في كلّ آن، حتّى لا نغرق في ثرثرات عقولنا وأهواء قلوبنا ودغدغات أحاسيسنا! لا أيسر من نسبة ما للنّاس لله! كلٌّ مائل، في كلّ حال، إلى تأليه ذاته وما له، لا سيّما إذا اتّفق أن يكون في موقع الإلهيّات!
إذا ما كان يُفترَض بخادم الله أن يكون المطرح الّذي تتجلّى فيه كلمة الله بامتياز، فإنّه قابلٌ لأن يكون المطرح الّذي يجلس فيه ضدُّ المسيح، حيث لا ينبغي، بامتياز، أيضًا! الفرق هو بين أن تُفرِغ نفسك لتتملأ من ربِّك، وأن تتملأ من ذاتك لتستفرغ ربّك، إلاّ منه مَظهَرًا!
أمّا ما للرّوح فلا يُحْكَم فيه إلاّ روحيًّا. الإنسان الطّبيعيّ لا يقبل ما لروح الله (1 كورنثوس 2)!