منذ أحدين ابتدأنا موسمًا صلاتيًا خاصًا يمهّد للصيام. قرأنا مثل الفريسي والعشار وبه تعلّمنا سرّ التواضع. ثم قرأنا مثل الابن الشاطر، وفيه تعلّمنا التوبة والرجوع الى أحضان الله. يُطرح اليوم السؤال: بعد أن نتوب ماذا نعمل؟ الجواب في إنجيل اليوم: بعد أن نتوب الى الله، نحب الإخوة.
يُقرأ هذا الإنجيل فيما نستعدّ للصيام. واليوم أحد مرفع اللحم إذ نُمسك غدًا عن أكل اللحم. يتصوّر البعض للوهلة الأولى أن ما تؤكده الكنيسة هو الامتناع عن الطعام. غير ان الكنيسة، وإن علّمتنا أن نُمسك عن طعام وشراب لكي نتدرّب على التقوى، أرادت بالدرجة الأولى أن نتصدّق على الفقراء بما نوفّره من مال اذا صُمنا. هكذا، عندما أسست الكنيسةُ الصوم، لم يكُن هدفها أن تفرّق بين طعام وطعام، ولكن المسيحيين الأولين كانوا يصومون من أجل الصدَقة لا من أجل الصوم، اي ان الإخوة كانوا هم الغاية اذا نحن صُمنا. المحبة كانت الغاية اذا نحن أَمسكنا عن طعام.
جاءنا “إنجيل الدينونة” اليوم لكي نعرف اننا سنقف أمام المسيح عند مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات. ما يميّز المؤمن هو انه يعيش دائما بانتظار الرب. يعرف انه قد يموت اليوم ويشتاق الى مجيء المخلّص. المؤمن يحبّ المسيح على كل شيء في هذه الدنيا، ولا يتمتع بالدنيا تمتّع الوثني، ولا يغرق فيها لأنه مجنّح وعيناه الى يسوع الآتي بالحب. بهذا كان المؤمن منجذبًا بالمحبة الى الآخرين.
قال المخلّص للذين جعلهم عن يمينه: “تعالوا إليّ يا مباركي أبي، رثوا المُلك المعدّ لكم منذ إنشاء العالم”. ان الله خلق العالم لكي يهيء للناس ملكوتًا يرتعون فيه ويكونون تحت سيادة الله. ويواصل الإنجيل: انكم أطعمتموني لما كنت جائعًا، وألبستموني عندما كنت عريانًا، وزرتموني لما كنت سجينًا، وما الى ذلك من أعمال البرّ. قالوا له: نحن لم نرك، كيف تقول اننا أعطيناك كل هذا؟ ويُجيبهم الرب: ما فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه. وعلى هذا المنوال يُكلّم الأشرار ويقول بالنهاية: “ما لم تفعلوه بهؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه”.
الإخوة الصغار هم الإخوة المحتاجون. والانسان قد يحتاج الى مال، ولكنه في الدرجة الأولى يحتاج الى محبّة. الانسان الغنيّ ايضًا فقير. لا يحتاج إلى أن نعطيه شيئًا، لكنه دائمًا يحتاج إلى أن نعطيه حبًّا. الانسان المكسور القلب الذي يحسّ بأنه وحده في الوجود وبأن الناس تركوه او بأن الناس احتقروه، هذا بحاجة الى انتباه. البشر كلهم يعيشون بشيء واحد هو أن يحبّوا وأن يُحَبّوا. هذا تعطيه من رزقك لكي يشعر بأنك قريب اليه، وذاك تعطيه مِن انتباهك يومًا بعد يوم.
المسيح لا نلاقيه في مبنى الكنيسة فقط. كل واحد منّا مسيح. كل انسان مرشح ان يكون مسيحا، اي ان كل انسان ينتظر حبا، وإذا نحن أحببناه فكأنه هو المسيح. المسيح حاضر في كل وجه، ولكن ينبغي أن نكشف القناع عن هذا الوجه. قد لا يعرف هو انه من إخوة المسيح الصغار. قد يكون جاحدًا، قد يكون سارقًا، قد يكون مجرمًا، ومع هذا فهو يستحقّ عطاءنا ويحتاج انتباهنا ويعيش من محبتنا. لننزع الأقنعة عن وجوه الناس، ولنمسح الغبار عنهم، ولنعطهم، لنعطهم أنفسنا، فما يُعطى من القلب انما يوضع في القلب.
هكذا اذا جلبَنا المسيحُ اليه فِيهِم، نستطيع ان نقول في يوم الدينونة: نحن أحببنا ومع ذلك كنا خطأة، فاغفر لنا اللهم خطايانا. اذا تُبنا الى الله، يتوب هو الينا، يرجع الينا ويرفعنا الى صدره.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)