في ذمّة داعش المذمومة

الأب جورج مسّوح Wednesday March 5, 2014 157

ليس مستغربًا أن يفرض تنظيم “داعش” أحكام أهل الذمّة على أبناء الرقّة المسيحيّين. وليس مستغربًا أيضًا أنّ ما قام به هذا التنظيم قد لاقى استهجان معظم المسلمين. فـ”داعش” أعادت إلى الحياة نظامًا كان معمولاً به في حقب تاريخيّة عديدة، وله مسوّغاته في الفقه الإسلاميّ الذي لا يقرّ، قديمًا وراهنًا، بالمساواة في الحقوق والواجبات ما بين مواطني الدولة القائمة على الشريعة الإسلاميّة.

وهذا الفقه، وإن زعم تبنّيه المواطنة أساسًا للحكم، ما زال يميّز بين المواطنين على أساس دينيّ ومذهبيّ. أمّا حين يتحدّث بعض الفقهاء والمفكرّين الإسلاميّين عن المواطنة، فتراهم يضعون استثناءات أو تحفّظات تشريعيّة على مشاركة غير المسلمين في الدولة الإسلاميّة.

تتفاوت، اليوم، مواقف الإسلاميّين من قضيّة أداء الجزية في البلاد الإسلاميّة التي يسكنها مجموعات من “أهل الكتاب”. وتتراوح هذه المواقف بين إعادة فرض الجزية كونها مقرَّرَة في القرآن، وبين إلغائها أو تغيير اسمها إذا كانت تزعج المواطنين من “أهل الكتاب”.

يعتبر الإسلاميّون أنّ مبدأ الجزية ليس سوى امتياز لأهل الكتاب تأسّس على القرآن الذي يميّز بين أهل الكتاب، ومنهم المسيحيّون، وبين المشركين. فبينما يضع القرآن المشركين أمام خيارين: إمّا الدخول في الإسلام أو القتال، يدعو المسيحيّين إلى أداء الجزية فقط مقابل الحفاظ عليهم آمنين سالمين. لذلك، يستنتج هؤلاء أنّ الإسلام إنّما منح المسيحيّين امتيازًا إذ فرض عليهم الجزية، في حين أنّه أمر المسلمين بمقاتلة المشركين حتّى يسلموا.

الشيخ يوسف القرضاوي، أحد أركان الوسطيّة، يصرّ على إعلاء الرابطة الدينيّة على كلّ ما عداها من الروابط. لذلك، يرفض التسامح والانفتاح القائمين على “تمييع” الأديان، بدعوى “الوطنيّة أو القوميّة” معتبرًا أنّه لنفاق زائف إعلاء الرابطة الوطنيّة أو القوميّة على الرابطة الدينيّة، أو إعلاء العلمانيّة على الرابطة الدينيّة. فبالنسبة إليه، “ليس من التسامح أن يُطلب من المسلم تجميد أحكام دينه، وشريعة ربّه، وتعطيل حدوده، وإهدار منهجه للحياة، من أجل الأقلّيّات غير المسلمة، حتّى لا تقلق خواطرها، ولا تتأذّى مشاعرها”. التسامح، عنده، يقوم “على ما أمر به الدينان من حسن الجوار، وحبّ الخير للجميع، ووجوب العدل مع الجميع”.

وينحو الشيخ سعيد حوّى، من جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، المنحى ذاته، إذ يرفض التخلّي عن المبادئ الإسلاميّة من أجل صيغة غير إسلاميّة تجمع المسلمين وغير المسلمين في الدولة الواحدة، فيقول: “إنّ شعوب الأمّة الإسلاميّة لن تتخلّى عن الإسلام، التاريخ شاهد، والواقع شاهد، وبالتالي فغير المسلمين بالخيار: أن يرحلوا، أو يتعاقدوا مع المسلمين على صيغة عادلة. فإن أرادوا الثالثة – أي أن يتخلّى المسلمون عن إسلامهم – فهذا لن يكون لهم ولا لغيرهم”. ثمّ يحذّر حوّى غير المسلمين لأنّ الإسلام لا بدّ سيحكم، لذلك ينصح لهم بالإسراع “للبحث عن صيغ للتعاقد مع المسلمين ترضي كلّ الأطراف، قبل أن يأتي اليوم الذي يُفرض فيه هذا التعاقد من طرف واحد”.

نظام “أهل الذمّة” ليس ابتكارًا داعشيًّا، بل هو كامن في صلب الفقه الإسلاميّ. وحاجتنا باتت ماسّة إلى اجتهادات إسلاميّة تعترف بالشراكة الوطنيّة والمساواة التامّة بين المواطنين من دون أيّ تحفّظات تشريعيّة أو سواها.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،5 آذار 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share