المؤمن يشتاق إلى الصيام اشتياقه إلى صديق طيّب لأن نور القيامة يتراءى له بجهاده في هذه الفترة. الاستعداد للفصح تقوم به الجماعة كلها. الجماعة مستنفرة معا تكثف صلواتها، تتكلم عن الحبيب الإلهي الآتي الينا بالآلام وبالفرح. تمسك الكنيسة عن كثرة الطعام، عن بعض الأطعمة ليس لأن في الطعام نجاسة ولكن تقيّدًا بالقاعدة الرسولية “كل شيء مباح لي، ولكن ليس كل شيء يوافق. كل شيء مباح لي، ولكن لا يتسلط عليّ شي.
إن الأطعمة للجوف، والجوف للأطعمة، وسيُبيد اللهُ هذا وتلك” (كورنثوس الأولى ٦: ١٢-١٣). في الصوم نصبح أحرارا من وطأة الطعام ومن استلذاذ الطعام، وبذلك تزداد قدرتنا على التحرر من الشهوات الأخرى للدخول في معركة الفضائل.
في هذا تواضعٌ لأني أُقرّ بحاجتي إلى هذا العراك وأنا والإخوة معًا نقوم بهذه المعركة. أنا ألتصق بهم. نحن معًا ننتظر قيامة المخلّص، وصيامنا وسيلة على دروب هذا التهيؤ. أنا لا أنفرد عن الكنيسة فلا أدّعي القوة الروحية التي تُغنيني عن انضباط الصيام. “وكان في الكنيسة التي في أنطاكية أنبياء ومعلمون… وبينما هم يخدمون الرب ويصومون، قال الروح القدس: افرزوا لي شاول وبرنابا للعمل الذي دعوتُهما اليه” (أعمال الرسل ١٣: ١-٢). فكنيسة أنطاكية آنذاك كانت تصلي وتصوم معا، وفي حالة الصوم أَلهمها الروح القدس ما أَلهمها به.
ولا شك، في فكر الكنيسة أن الصيام الأربعيني إلزاميّ لكل الجماعة، وقد نص على ذلك القانون الـ٥٦ من المجمع المسكوني الخامس السادس، المعروف بمجمع ترولو والمنعقد في القسطنطينية السنة الـ٦٩٢، هكذا: “علمنا أيضًا انه في مقاطعات أرمينيا وفي أماكن أخرى يأكل بعض الناس بيضًا وجبنًا في سبوت الصوم المقدس وآحاده، فيلوح لنا أنه يَحسُن ان يسود نظام واحد في كنيسة الله في كل أنحاء العالم وأن يُحفظ الصوم حفظًا دقيقًا. وكما يمتنع الناس عن أكل ما ذُبح، هكذا يجب أن يمتنعوا عن أكل البيض والجبن وهما من نتاج الحيوانات الممنوع أكل لحمها”. لقد أُلقي علينا نيرُ المسيح، والحِملُ خفيف لمن أَحبّ.
هذه صورة الإمساك عندنا، وقد أظهره القديسون وسيلة. وأما الغاية فهي حريّة النفس وتطهيرها من جهة، والمشاركة من جهة اخرى: “وكنتُ أُواضعُ بالصوم نفسي” (مزمور ٣٤: ١٣). وأما صوم المسيح فيقول عنه داود مسبقًا: “صرتُ منفيًا من إخوتي وغريبًا عن بني أمّي… وغطيت بالصوم نفسي فصار ذلك عارًا عليّ” (مزمور ٦٨: ٩-١١). وقد صام الرب حقا من بعد معموديته. اما فكرة المشاركة فقد أوضحها إشعياء: “الصوم الدي أُريده (يقول الرب) أن تحلّ قيود الظلم… ويُطلق المنسحقون أحرارا… أن تفرُش للجائع خبزك وتُدخل المسكين الطريد بيتك، أن ترى العريان فتكسوه ولا تتهرّب من مساعدة قريبك” (إشعياء ٥٨: ٦-٧).
تُوَفّر ثمنَ الطعام لتُعطيه للمحتاج. انت تُمسك عن الطعام ليأكل الذين لا طعام لهم: “يا نفس قد وافى زمان التوبة، فلا تتوانَي بل امنحي الجياع خبزًا وابتهلي مصلّية كل يوم وليلة وساعة إلى الرب لكي يُخلصك. كما غادرنا اللحوم وبقية الأطعمة فسبيلنا ايضًا أن نطرح عنا معاداة القريب والزنا والكذب” (من كتاب التريودي، صلاة السَحر، الاثنين من اسبوع مرفع الجبن). الكثيرون ممن لا يصومون يقولون: “المهمّ ان نكفّ عن الخطيئة”. هذه هي الغاية طبعا، ولكن الصوم وسيلة وفترة جهاد لهذه الغاية. لماذا يريدون ان نُبطل وسيلة نختبرها ناجحة سنة بعد سنة ونذوق بها أن الرب طيّب؟
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)