أيها الرب وسيد حياتي، أعتقني من روح البطالة، والفضول، وحب الرئاسة، والكلام البطال.
وأنعم علي أنا عبدك الخاطئ بروح العفة، واتضاع الفكر، والصبر، والمحبة.
نعم يا ملكي وإلهي، هبني أن أعرف ذنوبي وعيوبي، وأن لا أدين إخوتي، فإنك المبارك إلى الأبد.
شرح الصلاة للراهب بطرس من الجبل المقدس
هي صغيرة بالحجم ولكن مليئة بالقوة والعمق الروحي، نظَمها كاتب التسابيح القديس أفرام السوري الشاعر والناسك الكبير، المدعو “قيثارة الروح القدس”، وأعطتها الكنيسة مكانة هامة في ليتورجيتها وخاصة في فترة “الصوم الكبير”
قال أحد الآباء الروحيين عن هذه الصلاة: “أنا أرددها على مدار السنة في قانون صلاتي اليومي، وأنصح كل المسيحيين، أن يقوموا بالمِثل. لأنه بتردادها تعطي روح التواضع والتوبة والتميز الروحي، إذ تمتلك نعمة كبيرة من الله “. وسنتطرق نحن أيضا لهذا الأمر متعمقين بفحوى صلاة القديس أفرام السرياني وممارستها
كما هو معروف تُرَدَّد هذه الصلاة في كل فترة الصوم الكبير بالترافق مع ثلاث سجدات كبيرة، ما عدا يومي السبت والأحد. فالكاهن مع الشعب (الذين يسمح وضعهم الصحي) يسجدون، وهم يتفوّهون بها، ثلاث سجدات كبيرة
نرى من فحوى صلاة القديس أفرام أننا نصلي لله أن يحمينا من أربع أرواح شريرة: روح البطالة، الفضول، حب الرئاسة والكلام البطال، أي أربعة أهواء، وبعدها نبتهل إليه أن يمنحنا أربعة أرواح خيّرة: روح العفة، اتضاع الفكر، الصبر والمحبة، أي أربعة فضائل.
ومن الواضح أن الأرواح الشريرة الأربعة ليست إلا: “أجناد الشر الروحية في السماء” (أفسس 12:6). التي تحاربنا بدون توقف. و حيث أن الأهواء ليست إلا علامات لعبودية الإنسان لهذه الأرواح الشريرة. فلنصلي لله أن يساعدنا كي لا نقع في عبوديتها، عبودية الشيطان، الذي يريد أن يوصلنا إلى الموت الأبدي. وأما الأرواح الخيّرة، فليست هي إلا مواهب الروح القدس التي نلناها بالمعمودية بمسحة الميرون المقدس والتي يسميها أشعياء النبي: “روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب”. (أشعياء 2:11). نطلبها من الله، ونرجوه أن يساعدنا كي تكون فاعلة فينا.
+ + +
تحدَّث كثير من الآباء عن الأهواء والفضائل، ومنهم: القديس أفرام، القديس يوحنا الدمشقي والقديس يوحنا السلمي…الخ، ويقولون بأن لها أسماءٌ كثيرة. وكما أن الأشكال التي يمكن أن يأخذها الشر لا تنتهي، كذلك قدرة الإنسان لفعل الخير غير محدودة. هكذا يحدد البار بطرس الدمشقي عدد الأهواء بما لا يقل عن 298 وعدد الفضائل بـ228 (الفيلوكاليا). ومن الطبيعي أن نتساءل لماذا حدد القديس أفرام فقط أربع من هذا العدد الكبير من الأهواء والفضائل؟
ولماذا قام بتحديد هذه دونَ غيرها؟ للإجابة على هذه التساؤلات سنتوقف عند كل واحدة من الأهواء والفضائل المذكورة في صلاة القديس أفرام :
روح البطالة: ليست هي البطالة الجسدية البسيطة. إذ خُلق الإنسان منذ البدء ليعمل، وعمله هو حاجة طبيعية، لتأمين حاجاته: طعام، لباس، مسكن…. القديس أفرام يتحدث عن بطالة أكثر عمقاً، تلك التي تمنع الإنسان من تطبيق الوصايا الإلهية. يقول القديس مرقص الناسك: “الله حاضر في الوصايا” ويظهر في حياتنا أكثر كلما عشنا متمّمين وصايا. بالتالي، تطبيق الوصايا هو حالة الإنسان الجديد، الذي هو على صورة الله، و مدعو للقداسة ويكون إلهاً بالنعمة. وإذا لم نحقّق ذلك يكون السبب الكسل والبطالة، تلك البطالة التي تعارض تقدم الإنسان الروحي، وتؤدي لذبوله أو حتى لموته الروحي.
الفضول: هو علامة العبودية للمادة، التي تلصقنا بالأرضيات، ومرتبط بالبطالة ومخالف لتتميم الوصايا، يسعى لانشغالات وهمية بالكامل مع العالم الخارجي، وللاهتمام بأمور كثيرة، ليعيش الإنسانُ الأفراحَ ويبتعد عن الأحزان. وبحسب القديس مكسيموس إن التمتع بالماديات والكسل هو هدف الإنسان ذي الأهواء الكثيرة وموضوع اهتمامه الدائم. وبالمقابل يوصي الآباء بـ “عدم الاهتمام بالدنيويات” وأن يكون الاهتمام الوحيد للإنسان هو الخلاص.
حب الرئاسة: هو روح الشر الذي يفسد علاقتنا بالقريب، إذ يدفعنا إلى تجاهله ونجعله أداة رخيصة ووسيلة للربح. يُحطُّ من قيمة الآخرين، واضعاً إياهم من مرتبة الأشياء. يقول السيد المسيح إن القيمة الحقيقية للإنسان ليست المكانة التي يحتلّها بل الخدمة التي يقوم بها: “من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً” (متى 26:20). خدمة القريب هي وصية كتابية وعمل عظيم: هي خدمة إلهية.
نجد أن حب الرئاسة مرتبط بـ”الفضول”. بالحقيقة عندما يكون اهتمام الإنسان مرتبط بالماديات، يتحول لشيء أو أداة لا قيمة لها.
الكلام البطال: يقول القديس يوحنا السلمي بأنها الحط من أهم نِعَمْ الله للإنسان: موهبة الكلام. إذ يُظهر الكلام البطال فساد العالم الداخلي للإنسان، والذي ينتقل للآخرين ويفسدهم. وهو “عرش المجد الباطل، ونتائج الشهوة والفساد” لذلك يقول لنا السيد أننا في يوم الدينونة سنعطي حساباً عن كلامنا: “ولكن أقول لكم إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين” ( متى 36:12). ولهذا يفضِّل الآباء القديسون الصمت الذي هو لغة الدهر الآتي (القديس إسحاق السرياني).
بعد أن قمنا بتعريف بسيط لكل واحدة من هذه الأرواح الشريرة نرى وبنظرة بسيطة ثانية إليها أنها مرتبطة ببعضها البعض أيضاً، مولِّدةً حالة من الانحطاط والانهيار للإنسان المستسلم لها. فمن البطالة وعدم الاهتمام بالخلاص، يتعلق الإنسان بالفضول، ومنها يسقط في حبّ الرئاسة، وبعدها لا يقيم حساباً للآخر بل يُحطُّ من قيمته، ويبلغ به المطاف إلى أن لا يهتم بذاته بسبب انشغاله بالكلام البطال.
يشير الآباء القديسون إلى أنه يوجد مبدأ جوهري لتقدُّم الحياة الروحية هو حفظ طهارة الضمير في أربع اتجاهات:
نحو الله، حافظين وصاياه. نحو القريب، الشيء الذي يصوننا من كل شيء يعاكس محبتنا للقريب. نحو الأشياء، مستخدمين إياها وفق الغرض الذي خُلِقت من أجله، أي وفقاً لحاجاتنا. نحو ذواتنا، ضابطين الأهواء ومستخدمين المواهب، التي أخذناها من الله، بشكل جيد.
هذه الاتجاهات الأربعة التي تحفظ الضمير طاهراً تُقتَل من قبل الأهواء الأربعة التي ذكرها القديس أفرام السوري. فالبطالة تقتل الضمير في توجُّهه نحو الله، الفضول يقتل الضمير في توجُّهه نحو الأشياء، التي نستخدمها في هذه الحالة لهلاكنا وليس لخلاصنا. حبُّ الرئاسة يقتل الضمير في توجُّهه نحو القريب، والكلام البطال يقتل الضمير في توجُّهه نحو أنفسنا، بواسطة تدمير الكلام الذي هو هبة كبيرة من الله.
الأهواء الأربعة هذه ليست سوى تعبير عن حالة روحية مريضة، مفسدة لسلوك الإنسان تجاه كل ما يحيط به: نحو الله، نحو القريب، نحو الأشياء و نحو نفسه.
الشخص غير المهتم بخلاصه، المهتم بأمور كثيرة، المستبدُّ بالآخر والطويل اللسان، هو نموذج عن هذه الحالة النفسية المريضة، عن الإنسان الخاطئ. لذلك نفهم الآن لماذا اختار القديس أفرام فقط هذه الأهواء الأربعة في صلاته.
+ + +
بالمقابل نرى في الجزء الثاني من صلاته ما هي مواصفات الحالة الروحية السليمة. إذ نطلب: “وأنعِم عليَّ أنا عبدك الخاطئ بروح العفة، واتضاع الفكر، والصبر، والمحبة”. وسنتوقف عند كل واحدة منها على حِدَةٍ:
روح العفّة: يجب أن لا نفهم العفّة فقط كطهارة جسدية من الخطايا المميتة. فالطهارة هي الخطوة الأولى لـ”اللاهوى”، وهي حالة النفس النقية من الأهواء، المهيّأة لعمل الفضيلة. قال العبرانيون في سبي بابل: “كيف نرنّم ترنيمة الرب في أرض غريبة” (مز4:137). ويشرح الآباء هذه الآية معلِّمين إيانا أنه لا يمكننا أن نثمر ثمار عمل صالح مادمنا موجودين تحت عبودية الخطيئة. لذلك يذكر القديس أفرام السرياني روح العفة كأول الفضائل.
اتّضاع الفكر: هو حالة وجود الإنسان السليمة: فمن جهةٍ الأجسادُ ضعيفة وعاجزة ومن جهة ثانية كل ما يملكه الإنسان، حتى وجوده، هو هبة من الله. لذلك يقول الآباء أنّ اتّضاع الفكر يتحقق بأن يعتبر الإنسان ذاته أقل من الآخرين حتى أقل من الخليقة وأن يُعيد كل أعماله الحسنة لله.
الصبر: هو تعبير حقيقي للإنسان المتواضع، الذي يعرف خطاياه ويدرك أنه، كعبد ضال لا يطبق وصايا سيده، يستحق عقاباً لا نهاية له من الله. لذلك يصبر بفرح على شدائد و تجارب الحياة لأنه متأكد: “أنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله” (أعمال 22:14) وأنه فقط: “الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص” (متى 13:24).
المحبة: هي كمال كل الفضائل. الذي لديه العفة والتواضع والصبر يحب الله والقريب. لأنه حيث تكون المحبة يكون الله، الذي هو المحبة(1يو 8:4).
تشكِّل الأهواء الأربعة انحداراً، يبدأ من البطالة بالاتجاه نحو الأسفل، وبالمقابل الفضائل الأربعة هي سلّماً يبدأ من العفة حتى الوصول إلى الله، وهي معاكسة لتلك الأهواء وتشفينا منها. فالعفة تشفي مرض النفس من الكلام البطّال، واتضاع الفكر يقوي العلاقات بين الناس، والصبر يحرّر من عبودية الأشياء، أما المحبة فتشفي من اللامبالاة إزاء الخلاص.
لأن كل شيء من نبع الطهارة هو طاهر، وخاصة بالنسبة للسان، والذي لديه روح التواضع يقيم حساباً للقريب أكثر من ذاته، والذي يصبر لا يبني رجائه على الأشياء، والمحب لله يحاول باستمرار أن يطبق وصاياه.
وهكذا فالإنسان المتعفف والمتواضع و الصبور والمحب لله هو صورة عن الإنسان الروحي المتحرّر من الأهواء.
نرى أن اختيار هاتين السلستين من الأهواء والفضائل في صلاة القديس أفرام السوري لهما معنى روحي كبير، وتفضيا بنا إلى وجود حالتين روحيتين: حالة المتلوث بالأهواء وحالة المتطهر بواسطة الفضائل. أي من جهة أولى حالة الخطيئة التي نطلب من الله الشفاء منها، ومن جهة ثانية حالة الإنسان الروحي التي نطلب من الله بشدة أن يهبنا إياه.
+ + +
أما الجزء الثالث من صلاة القديس أفرام: “نعم يا ملكي وإلهي، هبني أن أعرف ذنوبي وعيوبي، وأن لا أدين إخوتي، فإنك المبارك إلى الأبد” فهو أعمق ما طلبناه في القسم الثاني من الصلاة،ش ولكن بشكل مختصر. فمعرفة الإنسان لذنوبه هي علامة التواضع، وعدم إدانة الآخرين هي علامة المحبة “التي تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تفاخر ولا تنتفخ… تحتمل كل شيء …” (اكو 13) هاتان الفضيلتان مرتبطتان معاً بقوة. يقول القديس يوحنا السلمي: “هما المحبة والتواضع، الأولى ترفع والثانية تثبِّت المرتفعين ولا تدعهم يسقطون”.
في نهاية الصلاة ومع طلب قمة الحياة الروحية: المحبة والتواضع، يريد القديس أن يعلمنا بأن الخلاص من الأهواء واقتناء الفضائل يفتح أمامنا طريق الخلاص والتشبُّه بالله لتحقيق مثالهش الذي هو كلي المحبة والتواضع.
+ + +
أما إذا ألقينا نظرة شاملة على الصلاة بكل ترتيبها، فماذا نلاحظ؟ نلاحظ أولاً: أننا نرى صورةً لإنسانٍ ملوَّثٍ بالأهواء الأربعة فنصلي لله أن يبعدنا عنها، ثم نرى صورةً لإنسانٍ متجدِّد بواسطة مواهب الروح القدس الأربعة ونطلب من الله أن يساعدنا للسير في هذا الطريق. بعد هذا وبإصرارنا على ترداد هذه الصلاة الصامتة تتواضع أنفُسنا وتعطينا ثقة ورجاء أكبر بمعونة الله. بالنهاية ماذا يريد القديس أفرام من ترتيب صلاته بهذا الشكل؟
التوبة الجسدية، أي السجود حتى وصول الرأس للأرض، هي العلامة المنظورة للتوبة: بالسجود نعترف بسقوطنا بالخطيئة وبحالتنا الفاسدة التي نحن فيها، ثم بنهوضنا نعبر عن إرادتنا للنهوض والخلاص من الخطيئة، أن نولد روحياً ثانية. لكن كلمة توبة تعني ولادة النوس ثانية، والتغيير، وتحول الإنسان الخاطئ لإنسان جديد روحياً.
يا له من أمر عجيب تقوم به هذه الصلاة العجائبية، أي أنها تحثُّنا على التوبة: إذ نقولها بفمنا وبالوقت ذاته نصلي بجسدنا، بكل كياننا، نعرف خطايانا ونسقط بتواضع نحو الأرض ولكن نقوم فوراً مشيرين إلى رغبتنا السريعة بالتقويم (السجدات). وكأننا نقول: “يا رب، تغاضَ عن سقطتي وكم أنني عديم الفائدة وعبد للأهواء وساقط. لكن لا أريد أن أبقى هكذا، أنا خاصتك، خلّصني، واجعلني مسكناً لروحك القدوس”
يوجد هنا شيء أبعد من فعل صلاة، هناك عمل توبة كامل يغيّر الإنسان ويجدِّده كتجلّي حقيقي. كما يحدث تجلي حقيقي في القداس الإلهي على المائدة المقدسة، إذ في القداس الإلهي وبحلول الروح القدس يتحول الخبز والخمر لجسد السيد(الاستحالة) ودمه، هكذا يحدث في صلاة التوبة: إذ بالتواضع أمام الله، بتوبة عميقة، إيمان ثابت، جهاد مستمر ونعمة الله، يتحوّل الإنسان الخاطئ إلى بارّ.
وكما أنّ استدعاء الروح القداس في القداس الإلهي يتم بقبول سريع من الله، هكذا يتم تغيُّر الإنسان بواسطة التوبة الحقيقية والجهاد الطويل ونعمة الله بشكل سريع.ش وهذا ما يؤكده الكتاب المقدس، صرخ العشار من أعماق قلبه: “أللهم ارحمني أنا الخاطئ” (لو 13:18). وحالاً تبرّر. وكذلك لصُّ اليمين صرخ على الصليب: “اذكرني يا سيد” وللحال سمع من الرب: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 43:23).
إذا كان القداس الإلهي هو عمل محبة من الله للإنسان، فإنّ عمل التوبة هو اتصال الإنسان بالمحبة الإلهية.
وبقبول الله لذبيحة التوبة يتطهر الإنسان ويتجدَّد ويتغير كلياً: “إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيضّ كالثلج” (أشعياء 18:1). هكذا هي قوية وعميقة وكاملة قوة التوبة. ولهذا رتبت الكنيسة المقدسة، وخاصة في فترة الصوم الأربعيني، أن يهيئ الإنسان نفسه بواسطة التوبة ليستقبل القائمَ في حياته.