ثمّة مَن يتمسّك، في الكنيسة، بالتّقليد معيارًا، وثمّة، في زمن العقلنة والعِلم، مَن يُعلي شأن التّاريخ، ويأبى إلاّ أن يُخضع التّقليد لمقاييس التّاريخ، عِلمًا. التّوتّر والتّضاد بين الاتّجاهين واضح. التّقليديّون، بالنّسبة للتّاريخيّين، أصوليو النّزعة بالمعنى السّيّء للكلمة، والتّاريخيّون، بالنّسبة للتّقليديِّين، دهريّو المنحى. كلٌّ يرى في الآخر تهديدًا لكنيسة المسيح وانحطاطًا!
في مقاربة الموضوع التباسٌ كبير. تحديد معاني المفاهيم المستعملة بحاجة إلى جلاء أكبر من مجرّد اعتبارها تحصيل حاصل!
التّقليد، أو التّراث، مفهوم جامعٌ كلَّ ما انحدر إلينا وما نحيا فيه وما نمدّه حتّى القيامة العامّة. ليس هذا محصورًا بما نُقِل كتابةً أو شفاهًا، أو بما اجتمع من عادات وحضارة، أو تكوّن من وجدان. هذا كلّه، طبعًا، متضمَّن في معنى التّقليد أو التّراث. لكنّنا، جوهريًّا، في صدد ما هو أعمق وأبعد، وأكثر محوريّةً، متى قاربنا لبَّ الموضوع. ليس التّقليد ذا طبيعة بشريّة أو دهريّة بحتة. فيه، طبعًا، ما يمتّ بصلات بنيويّة، إلى البشَرَة وإلى هذا الدّهر. لكنَّ له فرادته. فالتّراث ذو طبيعة إلهيّة بشريّة، ولا فصل فيه بين الإلهيّات والبشريّات. المرجع، في التّقليد، هو مسيح الرّبّ، الإله الإنسان. والتّراث أيقونته! إذًا، التّقليد، تحديدًا، حياة الله منقولة في ما للإنسان والخليقة. فمتى تكلّمنا على التّراث تكلّمنا على ما هو حيّ، على عمل روح الرّبّ القدّوس فينا، وفي العالم، منذ البدء، وفي كلّ آن ومكان. بكلام آخر، التّقليد، في الكنيسة، هو الرّوح القدس متعاطًى بجسد لغة النّاس، وفاعلاً في كلّ ما برأه الرّبّ الإله. الرّبّ يسوع، بتجسّده وقيامته وصعوده وإرساله الرّوحَ القدس إلى العالم، جعل الخليقة مغمورة، بصورة سرّيّة، تفوق مدارك البشر، بالرّوح والنّور والحياة الإلهيّة. وهذا يُتمثَّل تمثُّلاً، كما الجسدُ الطّعامَ، ليصير فينا حياة جديدة!
هذا الواقع الجديد، الّذي آل إليه الإنسان والعالم، بالرّبّ يسوع المسيح، له المجد، مرّة وإلى الأبد، بات هو إيّاه التّقليد، أو التّراث، الّذي نحن في صدده، ما إذا حيينا فيه بتنا شركاء، بالنّعمة، في ما لله، آلهة من الإله. “أنا قلت إنّكم آلهة، وأبناء العليّ تُدعَون” قال! وما إذا أعرضنا عنه لم تكن لنا شركة معه! التّقليد، أو التّراث، إذًا، هو نطاق الحياة الجديدة في المسيح يسوع!
وما التّاريخ؟
التّاريخ، في التّعاطي، بعامّة، نظام وجدانيّ يتوخّى استطلاع ما فات من أوجه حضارات الشّعوب. بعضُ ذلك بادَ، وبعضه باقٍٍ مستمرًّا، على تغيير طفيف أو ذي حجمٍ. التّاريخ، اليوم، عِلم ذو قواعد عقليّة صارمة. على أنّه أنّى تكن بيِّناته فليس بالعِلم اليقينيّ. تبقى معطياته المادّيّة خاضعة للتّخمين والتّقدير. لذا في عِلم التّاريخ مدارس وآراء، وهو عِلم مفتوح على كلّ مستجدّ، وليست له استنتاجات نهائيّة، بالمعنى الصّارم للكلمة.
في أفق آخر، التّاريخ، عند الأقدمين، كان عزيزًا، وعزيزًا جدًّا، لأنّه كان قوت الشّعوب وعلامة أصالتها، وما يضمن استمرار ماضيها حيًّا في حاضرها. هذا المنظور كان مقوِّمًا أساسيًّا من مقوِّمات وجدان الأقدمين. لذا تمسّكُ الأقدمين بتاريخهم كان أعظم، بما لا يُقاس، من تمسّك المُحدَثين! استهلاكيّة المنحى، اليوم، تُسقط قيمة التّاريخ، في حياة الشّعوب، لأنّ الشّعوب، بعامّة، آخذة، في نطاق العولمة، في فكّ الارتباط الوجوديّ بجذورها الخاصّة، والتّخلّي الحيويّ عن تاريخها! حضارة الاستهلاك تجوِّف حضارة الحياة المنحدرة من تاريخ الأمم! عِلم التّاريخ، في هذا الإطار، اليوم، يميل، بصورة متنامية، لأن يصير، بعقلانيّة المنحى، من جهة، واستهلاكيّة التّوجّه، من جهة أخرى، عِلمًا متحفيًّا، فولكلوريًّا! فيما لم يفصل الأقدمون ما بين التّاريخ والتّراث! الأمران عندهم واحد! ومنهما، كواحد، اعتاد السّابقون أن يستنبعوا الحضارة والحياة!
على هذا، عبثًا نحاول قراءة حضارات الأمس بأبجديّة عِلم التّاريخ المعاصر! فإلى تمسّك القدامى بالتّاريخ تمسّكًا أحشائيًّا، قاربوا التّاريخ مقاربة مختلفة عن مقاربتنا له، اليوم. التّاريخ، كحدث في المدى الفائت، ارتبط، عضويًّا، لديهم، بالعبادة، كحدث كونيّ وجدانيّ متواتر. أكثر من ذلك، أنّ ما نعتبره نحن، اليوم، وقائع تاريخيّة، كان، للأقدمين، توصيفًا لتجليّات إيمانيّة تتشوّف إلى عبادات تستمرّ، أي إلى تاريخ يدوم! ولو انوجدت، في تاريخ الشّعوب، هنا وثمّة، حوليّات، فالوجدان العامّ كان ميثولوجيًّا، بالمعنى الّذي أبانه أمثال ميرشيا إلياذي وفان دِرليوف ورودلف أوتو، وسواهم، في السّتّينات والسّبعينات من القرن العشرين. الميثولوجيا، عند الأقدمين، هي التّاريخ، كما تمثّل في وجدانهم! بعض ما نعتبره، اليوم، معطيات تاريخيّة، حدثيّة، تضمّنه التّاريخ، كما فهمه القدامى، لكنْ، هذا ما كان لِيَرد إلاّ في إطار منظومة دينيّة فلسفيّة ملحميّة تجمع الموروث إلى الحسّ والخيال والفكر والسّلوك والمشوق إليه، ما يجعلنا، في المقارنة بالمعاصِر، بإزاء وجدان، أو وجدانات، غير ما هو سائد اليوم، إلى حدّ بعيد!
إلامَ يؤول بنا هذا التّحديد للتّقليد (أو التّراث) والتّاريخ، في المستوى الكنسيّ؟
الكنيسة مستمرّة بتقليدها. من دون تقليد لا حياة إلهيّة تنبثّ في جماعة المؤمنين. التّراث هو الحياة في المسيح! لذا يُتناقل التّقليد، أساسًا، كروح! وما ينقل التّراث هو الإيمان بالرّبّ يسوع. وحيث إنّ الإيمان معطًى كيانيٌّ، أوّلاً، وله امتداداته على صُعُد قوى الإنسان كافّة، لا سيّما العقل؛ فما للعقل من منطق واستدلال وعِلم وتاريخ نقاربه كمَركبات في خدمة التّقليد الحيّ. لكن التّراث مستمرّ بعِلم التّاريخ المعاصر ومن دونه! تغني معرفة التّاريخ، بلا شكّ، إذا ما كانت لتُعين في إبراز التّقليد الكنسيّ وتعزيزه. أمّا إذا كان ديدنها إلقاء الشّكّ في مضامين التّراث، الكيانيّة والرّوحيّة، فإنّها تستحيل أداةَ أذًى ينبغي الحرص من مقولاتها!
طبيعيّ أن نخوض، اليوم، في عِلم التّاريخ ونفيد من بيِّناته. هذا هو الإنسان المعاصر، وبُعدٌ من حضارته، ولغةٌ من لغاته. لا شكّ أنّه من حقّ ومن واجب المؤمن، في هذا الزّمن، أن يقول التّراث بلغة اليوم، إذا ما درج على حداثة الفكر. المهمّ أن يبقى المحورُ الحياةَ في المسيح لا منظومةُ نظريّاتٍ في شأنها! ساعتذاك يكون روحُ الرّبّ هو الجامع بين مَن ينشأون في كنف علوم هذا الدّهر، ومَن هم على شيء من الأمّيّة في لغات حضارة الحداثة! في الإلهيّات لا لغة وجدانيّة واحدة! لذا نحتضن هذا ونحتضن ذاك، ونسعى لئلاّ يُعثر أحدنا الآخر! لا بأس، إن تكلّم آخرُ غيرَ مفاهيمنا البشريّة والعلميّة والحضاريّة! يبقى أخانا لأن مَن معنا وفيما بيننا هو مسيح الرّبّ، والفاعل فينا روحُه! لا نُعثرنّ الضّعفاء! ما دامت لغة الكيان فينا وفيهم هي الإيمان الفاعل بالمحبّة، فلا شيء يمكن أن يفرِّقنا، أحدنا عن الآخر، مهما تباينت لغاتنا وعلومنا وحضاراتنا!