ارتبطت المسيحيّة منذ نشأتها ارتباطًا وثيقًا بالصليب. فالصليب هو الرمز الذي اتّخذه بكلّ فخر المسيحيّون للدلالة إلى الحدث المركزيّ الذي بواسطته صار الخلاص للعالم. فهم يضعونه في بيوتهم وكنائسهم وأماكن عملهم، ويعلّقونه على صدورهم، ويحفرونه على أدواتهم… لكنّهم أيضًـا يتّخذونه قدوةً في حياتهم اليوميّة. ففي أحد النصوص القديمة لترتليانُس (+220) نجد أنّه يوصي برسم إشارة الصليب في كلّ زمان ومكان: “في جميع أعمالنا، حين ندخل أو نخرج، حين نلبس، أو نجلس إلى المائدة، أو نستلقي على السرير… نرسم إشارة الصليب على جباهنا. لم تأمر الكتب المقدّسة بممارسة هذه العادة، لكنّ التقليد يعلّمها، والعادة تثبّتها، والإيمان يحفظها”.
يقرّ علماء التاريخ بأنّ الصلب اختراع فارسيّ انتقل إلى الحضارات الأخرى، ومنها الدولة الرومانيّة التي كانت، زمن المسيح، مستولية على فلسطين. وكانت القوانين الرومانيّة لا تعاقب بالصلب إلاّ العبيد والغرباء، أمّا المواطنون الرومانيّون فلا يستوجبون هذا العقاب إلاّ في حالات معيّنة: الجرائم الكبيرة في السرقة وقطع الطرق، أو الخيانة العظمى، أو الفرار أمام العدو، أو التحريض على الثورة، أو إفشاء أسرار الدولة… ففي هذه الحالات، يفقد المواطن حقوقه المدنيّة، وتاليًا الحماية التي يتمتّع بها، فيصير عرضة لأسوأ أنواع الإهانة أي الصليب. كان الصليب أداة عار، وكان كابوس العبيد اليوميّ لأنّ من حقّ أسيادهم أن يصلبوهم لأتفه الأسباب وبدون محاكمة.
يميّز المؤرّخ اليونانيّ هيرودوتُس نوعين من الصلب: صلب الإنسان حيًّا، وتعليق جثّة قتيل على الصليب. أمّا الغاية في كلتا الحالتين فواحدة: أن تنال الضحيّة أشدّ أنواع الإهانة والإذلال. لذلك يتمّ تثبيتها على الصليب بالمسامير أو الحبال، وتُترك لتموت ببطء إنْ كانت حيّة، أو تُقدَّم للطيور إنْ كانت ميّتة. وكان من حقّ الجلاّدين تعذيب الضحيّة بوحشيّة كما يحلو لهم. فالفيلسوف سينيكا الرواقيّ يعطينا عن ذلك شهادة قيّمة: “أرى أمامي صلبانًا ليست متشابهة بل تختلف بحسب صانعها: فهناك مَن يدلّون رؤوس ضحاياهم إلى أسفل، وآخرون يمدّون أذرعتهم على عارضة”…
كان رعايا الدولة الرومانيّة يعتبرون الصلب أكثر طرق الإعدام إهانةً وإذلالاً، وكان يثير في نفوسهم شعورًا بالنفور والقرف والخوف. وقد انتاب هذا الشعور تلاميذ الربّ يسوع حين صُلب معلّمهم، فحزنوا وخافوا واختبأوا خجلاً، لأنّ مسيح الله، المسيح المنتظَر، المحرّر الذي دخل أورشليم بعظمة منذ بضعة أيّام، صُلب أمام عيون الجميع صلب المجرم أو الخائن أو العبد. لكنّ الأمور تغيّرت بعد حلول الروح القدس في العنصرة، لذلك أعلن القدّيس بطرس للجمع أنّ الله لم يترك ابنه، بل “جعل يسوع الذي صلبتموه سيّدًا ومسيحًا” (أعمال الرسل 2، 36). أمّا القدّيس بولس، فإلى اعترافه أنّ الصليب “عار لليهود وحماقة للوثنيّين” (1كورنثس 1، 23)، يقول إنّ الصليب ليس حدثًا محزنًا، بل عمل خلاصيّ: “لأنّ الذين يقبلون المسيح يسوع يصلبون الجسد مع شهواته” (غلاطية 5، 24).
ألغى الإمبراطور قسطنطين (+335) الإعدام بالصلب لأسباب عدّة، ولم يُعده ملك آخر بعده. فالقدّيس قسطنطين المهتدي إلى الإيمان المسيحيّ ألغاه لارتباطه بحياة المسيح، وصار الصليب يعني حصراً صليب المسيح الذي مات لأجل خلاص البشر. كما تمّ اكتشاف صليب يسوع بفضل القدّيسة هيلانة، والدة قسطنطين، في أثناء حجّها إلى الأراضي المقدّسة. ومن ذلك الحين بدأ ينتشر إكرام الصليب الذي تعيّد له الكنيسة في الرابع عشر من شهر أيلول. وتروي سيرة قسطنطين أنّه حين انطلق إلى إحدى معاركه سأل الله النصر، وعند الغسق ظهر في السماء صليب من نور وعبارة: “بهذه العلامة تنتصر”. وبعد انتصاره، أمر قسطنطين أن يوضع الصليب في كلّ مكان، وتحته عبارة تذكّر الرومانيّين بأنّهم تحرّروا من نير الطغيان بهذه العلامة.
تحرّرت المسيحيّة من وطأة الاضطهاد في عهد قسطنطين، وصارت الكنائس تُشاد في كلّ مكان، وظهر الصليب، من دون المصلوب، في الفسيفساء والرسوم الجداريّة. أمّا أوّل تصوير للصليب مع المصلوب فيعود تاريخه إلى القرن الخامس الميلاديّ، وهو نقش رائع على الباب الخشبيّ في كنيسة القدّيسة سابينا في روما. وإذا أمعنّا النظر في المصلوب، لا نلاحظ علامات الألم بادية عليه. فالجسد منتصب والعينان مفتوحتان، وحجم جسمه أكبر من حجم اللصّين المصلوبين معه، إشارة إلى التسلسل في الأهمّيّة. وهذا يشير إلى انتصار الحياة على الموت، انتصار القيامة على الجحيم.
في الأحد الثالث من الصوم، في منتصف الصوم، ترفع الكنيسة الصليب في وسط الجماعة لتذكّر المؤمنين بالهدف الأسمى للصوم، وهو حمل الصليب بفرح وشوق إلى لقاء المسيح القائم من بين الأموات. وبكلام آخر، ترفع الكنيسة الصليب لتقول مع الرسول بولس: “وأمّا من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم… لأنّي حامل في جسدي سمات الربّ يسوع” (غلاطية 6، 14-17).