القيامة بين الآليّة والألم!

mjoa Monday March 17, 2014 88

ليس خطابنا هنا دليلاً رعائيًّا، ولا يُقال ليُعطي قارئه ذريعةً لخلطة ولا مبالاة، في العلاقات الدّهريّة، في أيّ اتّجاه. جلّ ما في الأمر أنّه قول لإلقاء الضّوء على واقع صعب، ضاغط، معقَّد، يفرض توجُّهًا خلاّقًا في العلاقات بعامّة؛ وإن كان يبدو، في ظاهره، أنّه غير متآلف والممارسة التّراثيّة الأرثوذكسيّة الغابرة، فإنّه يستدعي رحابة في الحَضَن، وسعة في الصّدر، ونضجًا في الرّؤية الدّاخليّة، وتدبيرًا في المحبّة في الحقّ، نحتاج إليها لنخرج من حال التّكلّس الدّاخليّ في الامتداد الكونيّ الكيانيّ صوب واقع إنسانيّ حاد لم تعرف الكنيسة، في تاريخها، نظيرًا له، وتفرض حركةُ الرّوح فينا النّفاذ إلى أعماقه، لأنّ المفترض أن تكون “كلمة الله حيّة… خارقة إلى مفرق النّفس والرّوح…” (عبرانيّين 4: 12)، فينا!

     لا عاد عالمنا مسيحيًّا، في عمقه، ولا أرثوذكسيًّا. والتّجربة الأقسى أن نكتفي بأنفسنا وبما انحدر إلينا، ما يجعلنا نتوارى في دياميسنا النّفسيّة الباطنيّة، المزعومةِ روحيّةً، منقطعين عمّا يجري حولنا من تفكّك، وما يعانيه النّاس من ضيق وضياع، لنقيم فيها كما في جزيرة فردوسيّة كذوب، مكتفين بتصنيف ما حوالينا سِقْطًا! ما دام عالمنا، حتّى الآدميّ الأوهى، والحشرة الأرقّ، في ألم، مُدمًى، فلا يسعنا أن نتصوّر أن نكون في الرّاحة! فقط، في عمق شركة التّعب في العالم المضنى، يمكن أن يكون لنا رجاء بسلام من فوق، مدًّا لمَن وُلد في الجسد مصلوبًا ليحمل أحزاننا ويتحمّل أوجاعنا، وهو مجروح لأجل معاصينا… (إشعياء 53)!

     على القلب أن يتحرّر ليتحرَّك في اتّجاه الملكوت! ولكي يتسنّى له ذلك، يحتاج لأن يَفرغ من طلب أيّ شيء أو تعلّقٍٍ بأيّ شيء في الدّنيا! ليس لابن الإنسان مكان يسند إليه رأسه على الأرض! فقط مَن لا يسعى وراء أيّ شيء يُعطَى كلَّ شيء! ولو كان ما تشتهيه في دنياك تافهًا، ولا أتفه، فلن يسعك أن تتعاطى نَاسَكَ، مهما موّهتَ شهوتك، إلاّ أدوات لتفاهتك! لا خلطة للنّور مع الظّلمة! إمّا يُفني النّورُ الظّلمةَ، أو تنفي الظّلمةُ النّورَ! ثمّة كلّيّة لا تقبل من الخلطة ولا أقلّها! ما تملأه من ذاتك وأهوائك مستحيل أن يبقى فيه مكانٌ لأحد سواك! اكتفِ بأناك تُحِلْ كلّ عشرائك، وناس دنياك، أدوات لذاتك! وإن قالت لك نفسُك غيرَ ذلك كذبتْ، وكذبتَ، وما كان الحقُّ فيك! فَنُّ الفنون وعِلم العلوم أن تُفرِغَ ذاتك من ذاتها ليكون لك أن تحبّ بالمحبّة الّتي أحبّك مسيحُك بها! إذ ذاك تجد ذاتك الحقّ!

     هكذا تستقيم مقاربتك لربِّك، ومن ثمّ، لناسِكَ ودنياك! ليست الأمور كما تتصوّرها، مهما كان تصوّرُك لها، بل كما يجعلك روحُ ربِّك تدرك أنّك إيّاها! وهذا لا يتسنّى لك إلاّ متى تنكّرتَ لذاتك وما لك في إطار مسعًى دؤوب واع، ثابت، إلى التّحديق في حسِّك والإقامة في كيانك نقيًّا! “القلب يعرف مرارة نفسه…” (أمثال 14: 10)! فقرك فيما لذاتك غناك فيما لربّك، وفراغك من ذاتك ملؤك!

     على هذا متى ضَمر عشقك لذاتك تعاظم حسّك بعالمك! أخي يصير حياتي! هنا الحبّ يقتادك، ويستضيء فيك التّدبيرُ الحسن تلقاءً، فلا تعود مَسوقًا بأحكام الشّريعة بل ببركات النّعمة! أريد رحمة لا ذبيحة! في الرّحمة تلقى الكلَّ، والكلُّ يجد معناه! هذه لا يفقهها سوى مَن خبر الرّحمة وما عاد يبحث عن ذبيحةٍ خارج نفسه! دخل المعلّم بدم نفسه ليَدخل الكلُّ نظيرَه، أسوةً به! الرّحمة، إذ ذاك، تتجلّى كالذّبيحة الأحقّ! الذّبيحة لله روح منسحق! دمعةٌ تسحّ أبدًا!

     الدّهريّة، اليوم، تطيح التّراث الحيّ، أكثرَه، تُغرِّب النّفوس، تشوِّهها، وتعطِّل الإرادة فيها إلى أبعد الحدود. في حضارة الاستهلاك، ينبرص الإنسان ويصير على شبه ما يتعاطاه استهلاكًا! يستهلك نفسه في ما يستهلك! إذا كان الإنسان ما يأكل، وما يتعلّق به، فإنّه أيضًا، ما يدمن عليه! متى ملكت الذّهنَ نزعةُ السّلعة، همًّا، صار المرء، فكرُه سلعويًّا! الآلة لتُعينَك، تُسخّرها، فإن زاد اعتمادُك عليها واستئسارها لك، حيث لا تكون بحاجة حقيقيّة إليها، عطّلت فيك قواك الحيويّة، وأضحت لديك حاجة لا طبيعيّة، بديلاً عنك. طَبَعتكَ، إذ ذاك، بطابعها! أَسَرتْك! قَتَلتْ فيك لا وظيفة طبيعيّة، كنتَ تؤدّيها، واستغنيت عنها، لِخِوَرِ نفسك، وحسب، بل سَلبتْ عقلك، وشكّلت نفسك بشكلها، وألّلت روحك! ولكون الآلة صمّاء، بطبيعتها، مهما جرى تطويرها، وادّعيتَ واستبانت ذكيّة، فإنّ المرء، بما يشبه الإيحاءَ الذّاتيّ، ومن قوّة العادة الفكريّة، وعَطَبِ النّظرة إلى الذّات، يقتبل، عن نفسه، صورة الإنسان الآليّ نموذجًا، كما يقتبل الممثّلُ المبتلَع بالدّور الّذي يؤدّيه لدرجة أن يصير على صورة الدّور إيّاه. إذ ذاك تلقاه مغشيًّا عليه، في الكيان، يرتاح إلى بديل عن ذاته فيه، إيهامًا، ما يجعله في صدد التّغرّب التّلقائيّ المتبنّى عن نفسه، ومن ثمّ الانسياق، كما في ضرب من الإيحائيّة المغناطيسيّة المعمّمة، الّتي يتبنّى المرء، بإزائها، حالة انفصاميّة، يهون، في إطارها، ما هو من الطّبيعة لديه، ليَسقط أمام ما هو من اللاّطبيعة، فيتنازل، إذ ذاك، الإنسان عن إنسانيّته الحقّ، ويستعيضَ عنها بآلية استهلاكيّة لها مظهر الإنسانيّ، كتماثيل الواجهات، دون ما لروحه! يتشيّأ! وكما يصير المرء على صورة ما يُغرق في معاشرته، يصير على صورة ما يستهلك! مآل الصّناعة، في نهاية المطاف، الإنسان المصطنَغُ المِسْخُ!

     بانتظار ثورة القلب، حين ينفض الكيانُ عن نفسه خبَث الخطيئة والموات، متمثِّلَين في سرحان الخيال، مجنّحًا بقوى النّفس والجسد، في أمداء حريّات إيهاميّة، في بلاد بعيدة، يبقى الإنسان مُطعِمًا الخرنوبَ المرَّ خنازيرَ نفسه وهذا الدّهر! لا بدّ لكأس الغربة بالخطيئة والوهم مِن أن يمتلئ أوّلاً! ساعتذاك، تنخس القلبَ المجاعةُ، بالألم والفراغ والذّلّ واللاّمعنى، فتعود الذّكرى، وبالذّكرى التّوبة. أقوم وأعود إلى أبي! إلى أن تحلّ تلك السّاعة، يبقى الإنسان سائرًا على وَقْع إطلاقيّة أهوائه، وتفلّت حرّيّاته، يتقلّب في مناخات القلق والاضطراب والمعاناة والضّيق!

     أي دور تلعبه بقيّة الّذين يعرفون الله حتّى ذلك الحين؟

     شهود الله يُسبَون مع المسبيِّين إلى مصر كإرميا وإلى بابل كحزقيال! يعانون معاناة الشّعب ولو لم تكن لهم شركة في خطاياهم! كلام الله، ولو قيل، لا مَن يسمع، إلاّ النّدرة، لعنف الهوى وتصلّب الرّقاب وعناد الأكباد! لا بدّ من الألم مع المتألّمين حبًّا! للّذين شَردوا، هذه محصّلة أيمانهم، وللّذين عانوا وما شردوا، هذا مدُّهم لمصلوبيّة ربّهم! البارّ شريكٌ في عمل الفداء وصليبُه صليبُ ربّه مستعادًا! شركة الألم، اليوم، وكفكفة الدّموع، وبلسمة الجراح، والحضور، الحضور، الحضور، بالأكثر بصمت وغصّة ورجاء! هذه تصير الكلمةَ الحيّة مشبوحةً على بشريّة تقسّت! لمّا لم يسمع الشّعب الكلمة، استعاض إرميا عن الكلام بالدّموع! لا نخلي العبادة ولا ننصرف عن العقيدة، اليوم! ولكنْ، آلامُ البشريّة تستحيل مذبَحنا، مطرحًا نقدِّم عليه حياتنا، جسدًا ودمًا؛ وتيهانُ البشريّة يتجلّى مُقامَ انتظارنا، محرسًا نلزمه كحبقوق، والكلمة نارٌ ومنارةٌ في عيوننا حتّى تُستعاد البشريّة إليه! أيّها الرّبّ يسوع تعال!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share