سيّدي المطران جورج،
الآباء الأجلاء
أيها الأحبة،
إن سُئلتم عن الحركة دلّوا السائلَ الى إيقونة اله أحناه الحبُّ في كنيسته ليُبدع َمن افتقادها الى الأبناء رحماً لا يشبع من الحمل. دلّوه الى مزود صداقةِ الاله للأطفال. الى حيث الفتية يراهقون خدمةً، والشباب يسرح شهادةً. الى حيث يشبع الجائعون من حبّهم، ويغتني الفقراء بعطائهم. دلّوه الى حيث البُسطاء يطاعون والعلماء يطيعون. إلى حيث المحبّة تبني بالتعب راحةً في الأجساد، والاجساد تصيّرُ الوحدةَ إبنة للمسافات.الى حيث كتاب المسيح يُقرأ وجهاً، ووجهه يُرسم حياتاً. دلّوه إلى حيث الاله المدمّى باكليل الشوك يداوي جروحَه بدموع الفرح.
وإن سئلتم عن السرّ أشيروا له الى النصب الباقي بيننا. إلى ايقونة الحيّ الذي شاخ في المسيح. إلى صورة الحبّ الذي من تلك المحبّة. إلى الذي بُني عودُه على عودٍ من تلك الخشبة. إلى الذي أبدعت عيناه أجمل لوحات الإنجيل في سماء الحياة. إلى علّيقة الدمعِ ما بين الأرض والسماء. دلّوه الى إلى الذي أذهل الله بما جبلت يداه، الى المطران جورج خضر ليفهمَ سائلُكم سرَّ رجائِكم بالمصلوب، سرَّ هذا الشغف الممتدّ فيكم، منذ اثنين وسبعين عاماً، وحتى المنتهى.
عذراً سيدي، وقد فاتني ما تعلّمته منك أن كلَّ مدح هو من الشيطان. لكنّ ذنبيّ أن معك، ومع كوستي بندلي، حفظت أنّ ما من جمال أوإبداع في بشر إلا وكان من جمال الله وابداعه في
الناس، وما من ومضة خلق في انسان إلا وبزغت من نور فدائه تلك اللحظة. اللحظة التي فيها زعزعت دماؤه أرضنا وزلزلت قيامته عتاقتنا لنُولد ثانيةً، ونحن في سبيلنا الى وجهه، شركاءَ خلق وابداع. فليس مدحاً بشخصك، بل شغفاً منّا بجمال مسيحنا وخلقِه فيك، تنعّماً بعطر قيامته الذي يُنثر منك، وسحراً بوهج صليبه اللامع في عينيك، إقبل سيّدي تلك الكلمات، واحفظها عهدَ وفاء وثبات من أبناء أدمنوا على أن يقرأوا حروفَ نهضتهم محفورةً في وجهك.
أما أنت كوستي بندلي، وقد استحَلت في العيد، همسةَ صلاةٍ لأجل الحركة ودُعاء، فبالبساطة التي أحببت، ورغم كلّ ما قيل فيك، أقول: أنت الراحة التي صُلبت لتجعلَ من هياكلِنا جرناً حيّا لمعموديتنا في المسيح. أنت عاجن الحريّة أمامنا بخمير الفداء لنتذوقها رحبةً برحابة ما بين الأرض والسماء. أنت الكاهن الذي زيّح انجيلَ الربّ في زوايا حياتنا، ونثر الشموخَ في أزقّة فقرنا. أنت من داوى جهلَنا بالمعرفة، وأغنى بساطتَنا بالحبّ والثقافة.أنت من غرس فينا بذورَ الحقّ وخطّ لنا العدالةَ آية في إصحاح الفقراء من سفر الملكوت. أنت من علّمنا كيف نصلّي ونصوم وننحني بخطيئتنا، رجاءً بالمصلوب، في السجود. انت من جسّد لنا الصدقَ والالتزام والوفاء وجرأةَ الانبياء وأخجل نفوسَنا من كلّ تراخ وتفاهة وخوف وتنكّر ومحاباة. كوستي بندلي، لهذا نعلنك، في ضميرنا اليوم ،الحركةَ ونعلن الحركة أنت. أنت صرت في حركة الشبيبة الأرثوذكسية وبها، والحركة صارت فيك وبك، حتّى غدا كل فصل بينكما كالفصل بين أقنوم وأقنوم في الثالوث.
يا أحبّة،
إن أضأتُ، في العيد، على سحر بعض كبارنا، فلأن في الازمنة الصعبة يُفتقد الذين ما وجدوا وأوجدوا إلا بالأساس، بيسوع المسيح الذي لا رجاء لنا إلا هو. وعيدُ الحركة وقفةٌ نستحضر فيها أنّ كلاً منّا هو مشروعُ كبير بهذا الأساس إن هوى صلب الأهواء والتعب في يسوع سبيلاً للراحة. نحن، في العيد، نعيد تلقيح ذواتِنا بسائل الفداء لتتجدّدَ بالذي نحن منه وإليه وتمتدَّ فسحةُ خلاصِه في نفوسنا. تتجدّد بالالتحام بهصلاةً وصوماً وأسرارًا وفضائل وحملاً لكنيسته وشهادةً، وبإفراحه بمزيد من عشرة الكتاب وخدمة الجماعة والعطاء. بهذه التوبة اليه نقيس استقامةَ انتمائِنا الى حركة الشبيبة الأرثوذكسية. فالانتماء الى الحركة هو تعهّد، خطّيناه على قدمّي المصلوب، أن لا نعبر الى حلاوة عطاياه إلا عبر وجهه، ولا يكون لنا منظارٌ غير الذي في عينيه، ولا نستلهم فكراً إلا من حروف انجيله. هو تعهدٌ لا وفاء به دون تبنّينا لحياة الجماعة وما فيها من وجوه. الجماعة يا أحبّة، والفرقة الحركية وجه أساس لها، هي حصانة النفوس في وجه الأهواء، هي محرّر الفرد من أناه، هي مدرسة الانجيل، هي البانية في الفضائل والالتزام، هي المربّي على المحبّة وساحةُ المحبّة في آن، وهي مكمن ابداع الروح الذي به نلبس الجمال.
أيها الاخوة،
إن تأملّنا فيما حولنا ينكشّف لنا كمَّ الحاجة الى حضور جمال الروح فيه عبر شهادة الأبناء. البشاعةُ التي تحجب وجهَ مسيحنا عن ضمائر الناس تكبر وتزيد لتكادَ لامبالاتُنا تجاهها تقارب أن تشابهَ وجهاً لعدم استقامة الايمان.معظمُنا أمسى يألف التعايش مع ما نعيشُه من انحلال الخلق والقيم، وإن دون تبنّيه. مُعظمنا يألف التعايش مع تنامي الفردية والرشوة والجشع والتحايل والبذخ الجارح والزنا وانهيار البيوتات وحالات الطلاق، وإن دون تبنّيها. والأدهى، أن معظمنا بات يعتاد مشهد الحقد وبشاعة الحروب حولنا، وخصوصاً الحرب في سوريا، وما فيها من ظلم وموت وقهر للأبرياء. نألف المشهد دون أن يحرّك فينا ساكناً يُذكر إزاء ما يُرتجى من
أبناء الانجيل تجاه ألم الناس. فأين صوت الله فيما حولنا وأين حضوره ليلجأ المظلومون اليه؟ وإذ أعلم أن أكثرنا وأكثر رعاتنا ينظر الى هذا الطرح كقصيدة أحلام ومُثل، غريبة عن الواقع وبعيدة عن الموضوعية، أذكّر بأن دعوة الله لكنيسته هي أن تمدّ حضورَه في العالم ليكون للعالم خلاصاً، فتكون مفاهيمُه هي السائدة وانجيلُه هو المقياس وفكرُه هو المألوف. بهذا تتجلّى هويّة الكنسيين كأبناء الله في العالم وليس كأبناء العالم في الكنيسة. إن لم نحضر بالله الى حياة العالم وسط أشدّ محنه فمتى يكون هذا؟
ما يقودني اليه ألم الناس هو أن أشكر الله بفرح كبير على ومضة قيامته التي أنعم بها علينا بتحرّر راهبات دير القديسة تقلا، بسلام وكرامة، من أسرهنّ، وأن أقف، معكم، وقفة قلق وتضامن مع سيادة المطرانين بولس اليازجي ويوحنا ابراهيم والكهنة المخطوفين، وكلّ المخطوفين في أسرهم، شاخصاً الى حنان مسيحنا سائلاً إياه أن يلهم المعنيين بأسر أساقفتنا وأبنائهم إلى ما يُفرح كنيسة الله في إنطاكية بحرّيتهم وسلامتهم، وراجياً منه، بالصلاة، أن يمدَّ أسقفينا، وكلَّ المأسورين، بالصبر والرجاء. وإذ أنحني اجلالاً لشهادة الموت محبّةً التي قدّمها بعض كهنة كنيستنا وشمامستها وأبنائها في سوريا ألتفت، لفتةَ محبّة وشوق وافتقاد، الى اخوتنا الحركيين هناك الذين تحصّنوا، مع سائر أبناء الكنيسة، خلف رجائهم بيسوع وثباتهم فيه في تعاملهم مع أقسى ما يمكن أن يتعرّض له انسان، لأشكر الله على ذلك وأسأل لجميع أهل بلدينا، لبنان وسوريا، الاطمئنان ولكلّ الشهداء الرحمة من لدن المصلوب.
يا أحبّة،
تسألنا هذه الصعوبات، أبناءً وآباء، في كنيسة إنطاكية، أن نلتقي ونتشارك ونتعاضد لنكون واحداً في مدّ حياتنا الكنسية بما يؤهّلها للشهادة من مقوّمات. من وجوه محبّة واستقامة وصدق وشركة وحيوية شبابية تقود الى ابتداع السبل لمواجهة محن زمننا بما يرضي مسيحنا.
وتصعب السبل بغير أن تنضح الكنيسة بالشباب وتكون ارادة الله نافرةً في بيته وعائلته أولاً. لا يخفى على أحد الحجم الهائل لغربة الأجيال الشابّة عن الكنيسة وحياتها. أنظروا الى حال المشاركة في الخدم والأنشطة الكنسية ونوع هذه المشاركة وقيسوا. أنا لا أنكر أننا في الحركة نتحمل قسطاً من المسؤولية عن هذه الغربة، وأنَّ علينا التفكير أكثر لخلق المبادرات التي تجدّد وتتلائم واهتمامات شباب اليوم لنأتي بما أمكن منه الى الكنيسة. هذا ليس من أجل حياة الكنيسة وحسب بل من أجل خلاص النفوس أيضاً. غير أنّ ذلك لا يُبطل، أبداً، ما يُرتجى من المؤسسة الكنسية، الرمزَ والمثال، أن تكون عليه لتزيل عن وجهها ما يعيق خلاص الأبناء ويعثّرهم. لذلك، وعسى أن يكون يومُ عيدِنا مفصلاً، أتوّجه خصوصاً الى آبائنا الرعاة، كقادة، لأصارحهم بالقول: إنّ الوقتَ ليس وقتَ التجاذب بيننا، إذ ليس هو وقتُ الغرق في ما يرجّح كَفّة هذه الموهبة، اخلاصاً للمسيح، على تلك. فربّنا قال في كتابه بحاجة الجسد الى كلّ عضو وموهبة، والأدوار، جميعها، حُدّدت بكلمات انجيلية لا تُعدّل أو تُمحى من بشر، وحريّة الأبناء سُدّد ثمنُها مرّة واحدة على الصليب. فيا رعاتَنا، الزمن يتغيّر ويصعب، وسبل البشارة فيه تختلف، والهوّة بين المؤمنين ترتفع، وبينهم وبين الكنيسة تزيد. فدعونا نتحّد اتحاد المعنيين بشأن الله وكنيسته، كلّ من موقعه في الوحدة المواهبية الثالوثية الهوى، لنتساعد في تلبية الحاجات الأساسية لاستقامة حياتنا الكنسية كخطوة في طريق تلبية ما يفوقها من صعاب. وأقصد بها تلبيةِ الحاجة إلى أن نسائل بعضنَا البعض لنربّي على تحلّينا رعاةً وأبناء بما يكفي من الفضائل والنقاوة. هذا لنجيب الربّ بما يُرضيه يوم السؤال، ولنقولَ للشباب أنّ هنا في عائلة الله تجدون جمالاً يتمايز عمّا هناك، أقلّه تجدون أن الخطابَ، هنا، والفعلَ واحد. وأقصد الحاجة إلى أن نسعى ليكتسب كلُّ ناطق في الكنيسة وباسمها جرأةَ أبناء الله ويسلك بموجب وعيه أن الوحدة في كنيسة المسيح لا قيمة لها بغير أن تكون في يسوع الحقّ. فلا تُستباح كرامة يسوع ويسلك أحدٌ، بحجّة ترسيخها، في غير الحقّ. وأقصد الحاجة إلى أن تكون تربيتنا الكنسية على يسوع
المسيح وله، فننقص نحن ويزيد هو، لا أن تكون، بيسوع المسيح، على ذواتنا. باختصار أقصد أن نتساعد في تلبية الحاجة الى أن تعكس وجوهُنا الشخصية ووجوه حياة كنيستنا للناس صدقية خاصّتها الربّ.
من هنا، نحن ليس لدينا ما نقوله حول موضوع الأزمة التي ضجّت بها كنيستنا في السنة الأخيرة، وما قلناه يبقى هو هو، إذ ندع القضيّة في عهدة القيّمين عليها الذين حدّدتهم قوانينُ الكنيسة، على رجاء أن يقودهم نورُ الربّ إلى أن لا يهابوا مخلوقاً ولا يُهملوا مظلوماً، فيحكموا بالحقّ فيه، أياً كان هذا الحقّ، ووفق ما تقتضيه المحبّة الانجيلية من سبل. هذا لا يمنع أنّ لدينا ما نقوله فيما كشفته تداعيات هذه القضيّة من هزالة بعض التربية الكنسية. الهزالة التي قادت شريحةً من الأبناء الى أن تصلب، بالشتم والذمّ والتجنّي، أساقفة وكهنة ورهبان وراهبات ومؤمنين على مذبح ما تعتقد أنهّا قضية حقّ في كنيسة المصلوب. لدينا ما نقوله في ذمّ كهنة بأسقف، وبكهنة آخرين وأبناء، وفي اعجاب كهنة بالشتم، علناً، دون أيّ مساءلة. لدينا الكثير نقوله في تجاهل أساقفة قرارات أسقف في أبرشيتّه، وتجاهل شرائح كنسية أخرى هذه القرارات. ولدينا الكثير والكثير نقوله في كلّ ما يسوّق له حول المحبّة، ويشوّه مفهومَها في الكنيسة. ومنه أن نذكّر بأنّ المحبّة الانجيلية ترنو الى خلاص النفوس لا الى هلاكها، وأنّها تربّي ولا تراوغ، وأنها تَصدق ولا تَخجل أو تهاب، وأنهّا تلطف دون أن تغبن، وتحتضن دون أن تتنكّر لظلم.
هي كلّها قضايا وحاجات أساسية نضعها في عهدة المجمع الانطاكيّ المقدّس وتحت مساءلته التي نطلبها، ونصرّ عليها، صوناً لاستقامة المحبّة والحياة وتجلّياً لكرامة الربّ في الكنيسة، واضعين أنفسنا، وتربيتنا وخُلقنا وتصرّفنا، أولاً، تحت هذه المساءلة.
أيها الأحبّة،
باسمكم، أزرع هذه الهموم، باطمئنان وثقة لا تتزعزع، في واحة لم تعرف ثمراً غير العشق ليسوع المسيح وبهاء كنيسته. في صدر أبينا غبطة البطريرك يوحنا العاشر الذي عرفناه، أولاً، وما زلنا، أخاً، صديقاً، قائداً في هذه الحركة التي نحتفل بانطلاقتها اليوم. وإذ أعلم أنها تضاف الى جبل آخر من الهموم انتصب في ضميره منذ لحظة تولّيه السدّة البطريركية، أضرع الى مسيحنا أن يزيد غبطته حكمةً فوق حكمةً، ويمنّ عليه بالصحّة والقوّة، ويمدّ نوره في عينيّ قيادته لتخطّي هذه الهموم ولنعاين كنيستنا الأنطاكية، في عهده، عائمةً بالبهاء والنقاوة وحيويّة الأبناء التي نعلم أن من لا يحتاج الى شهادة أحد، أن غبطته يتطلّع اليها قبل أيّ مّنا وأيّ كان.
ويبقى ختاماً، أن أنظر الى وجوهكم، إلى إيقونة رجائي بالمسيح، لأزرع فيها كلّ الحبّ والشكر للربّ عليها، سائلاً إيّاكم أمراً واحداً الثبات في رحم الحريّة والتجّدد في الربّ والالتزام والوفاء، والوفاء. وكلّ عام وأنتم بخير.