رحل راعي أبرشية أميركا الشمالية للروم الأرثوذكس المتروبوليت فيليب صليبا أمس، ومع رحيله تطوى صفحة عزيزة من سيرة مشرقة انطلقت من قرية أبو ميزان الوادعة في المتن الشمالي من جبل لبنان، إلى نيوجرزي في الولايات المتحدة مقر الأبرشية… إلى ديار الخلد.
هو عبدالله الياس صليبا ابن قرية أبو ميزان وكنيستها التاريخية الصغيرة مار جريس التي كان يمارس فيها شعائره الدينية والطقوس الكنسية وهو صغير. وفي يوم من أيام الصيف، في أواخر أربعينات القرن الماضي، قام البطريرك ألكسندروس طحّان بزيارة رعوية لهذه القرية التابعة لدير مار الياس شويّا، المقر الصيفي لبطريرك الروم الأرثوذكس في ضهور الشوير. أراد أن يصلي في كنيسة القديس جاورجيوس القديمة هناك، فتوجه إلى القرية راكباً على جحش ابن آتان لأن الطريق لم تكن وصلتها بعد. وقد رغب كثيراً في أن يتفقد أبناءها ويتعرف إلى شؤونهم وشجونهم ويشملهم برعايته، خصوصاً لأنهم شركاء الدير ويعملون في أرضه.
بعد القداس الإلهي توجه الى منزل الياس بو خليل صليبا الذي كانت تجمعه به مودة، إذ كان يرتل في كنيسة الدير وفي كنيسة القرية. تحلق كل أهل القرية حول البطريرك لأخذ البركة وتناول القهوة… وانبرى أحد الحضور قائلاً: “يا سيدنا، إن هذا الصبي (مشيراً إلى عبدالله) ذو صوت جميل”، فطلب البطريرك من عبدالله أن يُسْمِعَهُ ترتيلة فانصاع وانطلق مرتلاً إحدى التراتيل الكنسية المعروفة. فغمر البطريرك الفرح والانشراح وأعجب به سائلاً: “من يكون؟”، فأجابه الذي أومأ له به: “إنه ابن صديقك الياس”. فنظر البطريرك إلى الياس بو خليل صليبا وقال بصوت جهوري سمعه الجميع: “يا بو ناصيف إن الكنيسة تطلب هذا الإبن الروحي إذا ما عندك مانع”. أجابه بو ناصيف: “كيف يكون عندي مانع والكنيسة تطلب إبني ليخدم في حقل الرب”. فأجابه البطريرك: “إذاً خذ إبنك إلى الدير غداً لينضم إلى من سيصبحون خداماً لرعايا الكنيسة”.
عندما تأكدت والدة الصبي أن هذا الأمر أصبح حتمياً ولا رجوع عنه، وبعدما نفذت كل التوسلات لديها لإقناع بو ناصيف بتغيير موقفه الجدي، بكت بكاء مراً لأنها لم تكن تتحمل غياب ابنها! وكانت الطرق غير ما هي عليه اليوم، وكان الانتقال من مكان إلى آخر، وخصوصاً إلى الأديرة صعباً.
في اليوم التالي اصطحب بوناصيف ابنه عبدالله إلى الدير وسلّمه للبطريرك ألكسندروس. وطلب البطريرك مرة أخرى من عبدالله أن ينشده قطعة موسيقية فلبّى الطلب وازداد إعجاب البطريرك به وبرغبته في تعليمه.
عاد الوالد إلى منزله في قرية أبو ميزان فرحاً وحزيناً في آن واحد، فرحاً لأن ابنه تبنته الكنيسة، وحزيناً لابتعاده عنه. ومع بدء الدروس في دير سيدة البلمند أرسل البطريرك عبدالله إلى هناك لينضم إلى الاخوة الذين سيتعلمون مبادىء علم اللاهوت والمنهج الدراسي المعد للطلاب كما هو في سائر المدارس، ليقوموا بالممارسات الطقسية الكنسية ويتقنون فن الموسيقى البيزنطية.
بعد فترة حضر متروبوليت بيروت إيليا الصليبي إلى البلمند وسمع الشاب اليافع يرتل فأعجب بصوته، فاستأذن البطريرك ليكون عبدالله صليبا من عداد تلامذته في بيروت. وهذا ما حصل، وسامه شماساً إنجيلياً، وبقي في أبرشية بيروت نحو سنتين، ثم سافر إلى لندن ليكمل دراسته في إحدى جامعاتها في اللاهوت والفلسفة. ومن هناك راسل متروبوليت أميركا أنطونيوس بشير الذي سارع الى استدعائه وتسجيله في كلية القديس فلاديمير للاهوت التابعة للبطريركية الروسية. بعد ذلك سامه المتروبوليت انطونيوس بشير كاهناَ على رعية كليفلاند، وهناك تعرّف إلى أبناء رعيته وبدأ مسيرته الروحية والإنسانية والاجتماعية، وكذلك السياسية، لا سيما القضايا التي تتعلق بالوطن الأم حيث كان يشارك في معظم المؤتمرات العربية – الأميركية المتعلقة بقضايا الشرق الأوسط.
بعدما انتقل المتروبوليت أنطونيوس بشير إلى الأخدار السماوية، اختاره المجلس الملي الأعلى في الأبرشية الإنطاكية الأرثوذكسية في أميركا خلفاً للمثلث الرحمة أنطونيوس من بين سبعة مرشحين وقد نال الأكثرية الساحقة من الأصوات. فانتخبه المجمع الإنطاكي المقدس بالإجماع متروبوليتاً على الولايات المتحدة الأميركية وسائر أميركا الشمالية. وكان البطريرك ثيودوسيوس أبو رجيلي على معرفة وثيقة به وبما كان يقوم من نشاطات ورعاية، وللوفاء الذي يتمتع به نحو كنيسة إنطاكية الأم وكنائس الديار المقدسة أورشليم وبيت لحم وغيرها من المدن والقرى التي وطئتها قدما السيد المسيح… كيف لا وهو الذي اتخذ اسم القديس فيليبوس إسماً له تيمناً وشفيعاً لأن هذا القديس كان من صيدا وصور اللتين وطئتهما أيضاً قدما السيد المسيح.
انتدب البطريرك ثيودوسيوس السادس المتروبوليت الياس قربان مطران طرابلس والكورة للذهاب إلى أميركا لسيامة الخوري فيليبوس الياس صليبا أرشمندريتاً، وليصحبه إلى لبنان إلى دير مار الياس شويا البطريركي حيث سامه البطريرك متروبوليتاً على الولايات المتحدة وسائر أميركا الشمالية عام 1966. ويوم تسلمه الأبرشية عامذاك ذاته كان يوجد في أميركا نحو 60 كنيسة، أما اليوم، وبعد مرور أكثر من 45 سنة وبفضل رعايته ونشاطه واهتمامه، أصبح للكنيسة الإنطاكية في أميركا الشمالية نحو 260 كنيسة وصولاً إلى ولاية ألاسكا، فضلاً عن “القرية الإنطاكية” النموذجية هناك…
إلى ديار الخلد سيدنا فيليب… هناك سكنى الأبرار والصديقين وآباء كنيستنا الإنطاكية المجيدة.
كنيسة القديس جاورجيوس – أبو ميزان