ولاؤنا لواحد: مسيح الرّبّ! وولاؤنا لا يأتي من سلطة دهريّة تُمارَس علينا، بل من محبّة الله الّتي نعرف أنّها تغمرنا! من هذا المنطلق، ولاؤنا، كمؤمنين بالمسيح، لأيّ كان، في دنيانا، لا يمكنه، في الحقّ، إلاّ أن يكون ولاء لمسيح الرّبّ في مَن يتولاّنا، لا ولاء لأحد، في ذاته، لأنّه بترتيب النّاس، مولانا، ولو جاء ترتيبُ النّاس باسم الله، أحيانًا!
ولاؤنا لله، في كلّ حين وحال، أكثر من ذلك، هو دافعنا الأوحد لاستخدام ذواتنا، لا فقط لمَن هم في منصب، بل لكلّ أحد! إذًا، ليس موقع أيّ إنسان، كائنًا ما كان ذاك الموقع، وكائنًا مَن كان هذا الإنسان، ما يحدِّد ولاءنا له، بل وحده ولاؤنا للسّيِّد ما يجعل كلَّ أحد في أعيننا سيِّدًا، كما في موقع السّيّد! إذا كان قد قيل: “لتخضع كلُّ نفس للسّلاطين الفائقة لأنّه ليس سلطان إلاّ من الله” (رو 13: 1)، فلسنا نخضع لها بالمطلق، إن حاولت أن تختلس لنفسها، أو تجيِّر لذاتها، ولاءنا لله، وأن تحدونا إلى ما فيه كُفرٌ بالله وبولائنا الكامل لله! لا تدعوا لكم سيِّدًا على الأرض! شهداؤنا الأوائل قضوا لأنّهم لم يرضوا أن يسيِّدوا أحدًا على أنفسهم غير ربّهم! إذًا، بعدما جاء مسيح الرّبّ لسنا نعرف أحدًا حسَب الجسد (2 كورنثوس 5: 16)! ما نفعله، من بعد، نفعله كَمِنَ المسيح وبه وله، لأنّنا به بتنا “نحيا ونتحرّك ونوجد” (أعمال 17: 28)! إلى ذلك، لا نسيِّد، في المسيح، أو لا نقتبل ذوي السّلطان، وحسب، أسيادًا، في هذا الدّهر، بل الجميع، لا خطاياهم، نخدمهم كأسياد! الملوك والمماليك، الأغنياء والفقراء، المعظَّمين والمهمَّشين! ضنينون نحن بالرّئاسة الآتية من خدمة المكرَّمين والمحتقَرين، سواء بسواء! مَن أراد أن يكون فيكم أوّلاً فليكن خادمًا للجميع! هذه حكمة مَن جهَّلَ حكمة هذا الدّهر، وهذه محبّة مَن لم يشأ لأحد أن يكون، في عينه، دون سواه قيمة! كلٌّ عند الله متبنًى بالكامل لأنّ محبّة الله تشمله بالكامل!
نولّي الآخرين علينا، أو نقتبلهم أولياء، إذًا، لا لأنّهم مفروضون علينا، بل بالطّريقة الّتي نتعاطاهم فيها! لا تبعيّة لنا لأحد، في ذاته، على الأرض لأنّ سيِّدنا واحد، الّذي في السّماء! أبانا الّذي في السّموات… لتكن مشيئتك كما في السّماء كذلك على الأرض! ومشيئته نجسِّدها، فيما بيننا، على شبه مَن جاء ليَخدُم لا ليُخدَم! هذا المشتهى، أن يجري الحقّ كالمياه والبرّ كنهر دائم (عاموص 5: 24) فيما بيننا!
* * * * *
ولاؤنا، إذًا، لأيّ كان، من محبّتنا للسّيِّد يأتي، وإلاّ ولاؤنا للنّاس من محاباة يأتي لا محالة!
أمّا في المحاباة فتظاهرٌ بالمحبّة! إذًا في المحاباة رياء! النّاس، بالأكثر، يطلبون المحاباة ولا توافقهم المحبّة! لماذا؟ لأنّ في المحاباة مماشاة لمَن تحابي في أهوائه! تقول قولَه لترضيه لا ربّه! وتعمل عمله لتوهمه أنّك إليه! هذا يناسب الأكثرين لأن وَقْعَ الخطيئة في ما يطلبون! ولعلّك تظنّ أنّك تحبّ إن حابيت! هذا إن فعلتَه تفعلُه لأنّ محبّة ربّك لا تكون فيك، ولا تقضّ أحشاءك، ما يجعلك تسلك في الكذب وتعتاده وتحسب الكذب فيك حقًّا! في المحاباة، لدى مَن يطلب المحاباة، نكهة تأليهٍ للذّات! وهو لا يبالي بأصالة المحبّة ولا يشعر بأنّه يشتهي المنكَر، لأنّه يساوي محبّته لذاته بمحبّته المزعومة لله، معتبرًا أنّ مَن يحابيه يحبّ الله حقًّا! مَن يحبّ الله، بالرّوح، يقول عن الحقّ حقًّا، وعن الباطل باطلاً! ولا يقوله وحسب بل يسمعه أيضًا بتواضع قلب وفرح في الرّوح! أمّا مَن يلتمس المحاباة فلا يقبل أن يناقضه أحد! ما يضاده به أحدٌ يعتبره تعدّيًا، عليه وعلى الله! لا ما يمنعه في عماه من أن يساوي بين الطّاعة لله والطّاعة لذاته! فيما سلطة المحبّة الإلهيّة تقتضي أن تقتبل ما يُطلَب منك، فقط إذا كان موافقًا للضّمير، وأن تردّه فيما عدا ذلك! وأنت، إن فعلت، لا توجد فقط محبًّا لربّك، بل أيضًا، لمَن تَصْدُقه، في الحقّ ولو ظنّ أنّك لا تحبّه! طالب المحاباة يعتبر أنّك تحبّه إن حابيته، فيما مُحبّ الله يعتبر أنّك تحبّه لأنّك لا تشاء أن تحابيه! طوبى لمَن ترتاح نفسه لمَن يحبّه في المسيح وينتقده في الحقّ! ثقةُ مُحبِّ المحاباة بمَن يحابيه قُلَّبٌ أبدًا لأنّ الهوى قُلَّب، فيما ثقة مَن يحبّ الله بمَن يصدقه ثابتة لأنّ الأمانة لله تجعلها ثابتة! الأوّل يُسَرُّ بمَن هم له والأخير بمَن هم لربّه! في العمق، لا يُطيق مَن يكذب على الحقّ إلاّ الكذّابين ولا ترتاح روح المحقّ إلاّ في المحقِّين!
* * * * *
محبّة معاشرة الرّؤساء والأغنياء، في ضوء ما تقدّم، مَفسدة! يريدونك، في قرارة نفوسهم، وقودًا لشعورهم المتنامي بالعظمة، وتريدهم، في مقاصدك الخفيّة، أدوات لتحقيق وصوليَّتك! يستغنون عنك لأتفه الأسباب المزاجيّة الأهوائيّة، وتغادرهم إذا ما تيقّنت أنّه لا نفع لك منهم! يُذِلُّون وينتفخون وتتذلّل منتفخًا! يُسبغون عليك صفات فيك وليست فيك ما دمت تمالقهم! وترشقهم بأزاهير الكلام ما داموا يعاملونك كأنّك من الخاصّة! كلام في غير موضعه، ابتسامات غبيّة، أدعية بالجملة! الواحد يتأنّق في القول مهما كان تافهًا، والآخر يتغاوى في الفهم كالمرأة اللّعوب! ما دامت يده في فِيك تعتبر نفسك له، فإن أهملك أو لمس فيك موقعًا حسّاسًا شعرت فيه بالمهانة، فضحتَه بما تعرف واخترعت عليه ما ليس فيه! قد يعاملك بالصّدق، أو كَمُسارٍ لك، ليكسب ولاءك، فتعامله بالأمانة حتّى في معرض الباطل! ما يزعجه تتعلّم أن تبتعد عنه، وما يرضيه تستزيد منه! هذه لعبة العبيد والرّئاسة! يغيِّرك كما يغيِّر قميصه متى ناسبه الأمر، فتنقلب عليه كما ينقلب الرّبيع خريفًا! يتكاذبون، وكثيرًا ما يعرف الواحد أنّ الآخر يكذب عليه، ومع ذلك يستمرّون، مستلذِّين الكذب؛ فيما يحتقر، في عمق نفسه، كلٌّ الآخر!
طبعًا، ليست عِشرة الرّؤساء والأغنياء كلّها كذلك. من الممكن أن تقوم على الحقّ. وهذا استثناء. إذ ذاك فقط ينفع الواحد الآخر نفعًا جزيلاً. لكن كبار النّفس قلّة والأكثرون صغار! الأصيلون، بعامّة، متوارون أو مرفوضون! الحقّ، بالأكثر، في الاعتبار، وقح؛ والمحبّة مكلفة! ثمن الحقّ حرّيّة داخليّة يندر أن تجد مَن يشاء أن يدفعه! وثمن المحبّة بذلٌ قلّما تلقى مَن يعطيه! عليك أن ترضى بأن تعيش فقيرًا وتموت فقيرًا إذا ما أردت أن تتمسّك بأن تحبّ في الحقّ! الأكثرون يتوسّمون الخلطة: قليلاً من هذا وقليلاً من ذاك! بعضًا من حبّهم لذواتهم، وبعضًا من حبّهم لله! وما من خلطة! ولكنْ هذه حكمة هذا الدّهر! لا تصدِّق! لا خلطة للنّور مع الظّلمة، ولا للحقّ مع الباطل!
المحبّة تصنع رجالاً لله والمحاباة لهذا العالم! لمَن يحبّون، الباطلُ ممجوج، ولمَن يحابون، الحقّ ثقيل؛ ولا ما يجمع الأمرَين!
أما قال الرّبّ يسوع: مَن ليس معي فهو عليّ، ومَن لا يجمع معي فهو يفرِّق؟!