كان كتاب السير القدامى لدى العرب عندما يبغون لفت النظر الى تميز علم في باب من ابواب العلم أو الأدب، يعمدون الى ذكر العلماء المشتهرين الذين تتلمذ عليهم أو حظي بمرافقتهم او ارتاد حلقاتهم، سواء أكان ذلك في بغداد او الكوفة أو البصرة أو قرطبة أو اي صقع من أصقاع المعمورة.
وإذ استعرض قبساً من سيرتي المتواضعة – وما أنا بكاتب سيرة – فإنني أعتز بتتلمذي على احد أساطين العلم والثقافة الموسوعية في مدينتنا طرابلس، عنيت كوستي بندلي الذي غادرنا الى دار البقاء منذ اسابيع معدودة، ولقد ران على طرابلس والميناء حزن عميق، ولا سيما لدى أجيال من أترابي، عايشوا ذلك “القديس” “فوق العادة”، وقبسوا منه علماً وقيماً سامية وبعضاً من نهج حياة فاضلة!
سقياً لتلك السنين السبع التي قضيناها على مقاعد الدراسة في ثانوية الحدادين… ويحضر في هذا المجال الى البال المرحومون: ياسر كبارة وسالم بيطار وسامي الزيني ونشأت مراد ومحمد جراد وفريد نجار، إضافة الى أدمون كحالة وانطوان عازار وعصام كبارة ونزيه كبارة وجورج بو عاصي ومحمد بدر المصري وأحمد كلنك (أطال الله عمرهم)، ناهيك عن الاب ابرهيم سروج (أعانه الله في محنته!)، وقد كنا ندلف اليه في حصة الدين – نحن المسلمين – لكي نستمع اليه وهو يلقي درساً في الدين المسيحي على زملائنا المسيحيين!
بيد أن درّة هؤلاء جميعاً، أمواتاً وأحياء، كان كوستي بندلي الذي شكل ظاهرة لن تتكرر في مسارنا التربوي: طرابلسياً وشمالياً!
… تمضي السنون، وتقذف بي الأقدار عام 1980 الى فرنسا لمتابعة دراساتي العليا في الفلسفة، وذلك في جامعة جان مولان- (ليون 3).
وإذ يبادرني استاذي المشرف فرانسوا تريكو سائلاً عن مسقطي واجيبه بأنني من طرابلس (لبنان)، يطفح وجهه بشراً وتلتمع عيناه ويردف: هل أنت من مدينة كوستي بندلي؟ وهل لك معرفة به؟ اجتاحتني ساعتها موجة عارمة من الفرح والاطمئنان، وساورني شعور بأن ملائكة معلمي حاضرة معي، ترافقني في حلّي وترحالي، فأجبت من فوري بأنه احد اساتذتي العظام الذين بهم فخري واعتزازي. وزدت بأنني تتلمذت عليه في مرحلة التعليم الثانوي في مادتي الأدب الفرنسي والفلسفة العامة بالفرنسية (علم النفس وعلم المنطق وعلم الاخلاق).
وعوض مناقشة استاذي المشرف في “مشروعي”، الذي اعددته لعرضه عليه، استغرقنا بداءة في حديث مستفيض عن كوستي بندلي. ثم تناول تريكو من احد رفوف مكتبته ثلاثة مجلدات ضخمة (1500 صفحة) وضعها بين يدي قائلاً: إنها اطروحة دكتوراه استاذك الدكتور بندلي، وقد كنت احد اعضاء لجنة التحكيم (Jury) المشاركين في مناقشتها. واضاف ان مناظرة حامية الوطيس (Débat) قد نشبت بيننا حول بعض النقاط، وان كلينا بقي على وجهة نظره. واستكمالاً لهذه المناظرة غير المنجزة، زودني البروفسور تريكو مطالعة مكتوبة وطلب اليّ ايصالها الى معلمي بندلي لدى عودتي الى طرابلس. وهكذا باتت لدي مهمة جديدة، فغدوت كما الحمام الزاجل، أعمل على خط طرابلس – ليون، ذهاباً وإياباً، احمل الى كليهما رسائل وردوداً متبادلة!
توثقت علاقتي مجدداً بمعلمي يوم أصدر أحد أهم مؤلفاته “نضال عنفي او لاعنفي لاحقاق العدالة”، فعكفت على وضع دراسة تحليلية للكتاب – أزعم أنها قيمة – وذلك من منظار فلسفي، وحملتها اليه، وهو قابع في منزله لا يغادره إلا لماماً، فشكرني عليها. كنت اريد، بهذه الدراسة ان ارد جزءاً صغيراً من جميل ذلك الرجل الذي ألهب عقولنا الخافتة بلهب من سعير فكره، وأخذ بيدنا الى سبيل التفكير الصحيح والنقد الموضوعي. ولعل أهم ما تعلمته منه ونقلته الى تلامذتي في الجامعة اللبنانية علم المنهج او الطريق (Méthodologie).
غاب كوستي بندلي جسداً، ولكنه سيبقى عبر مسقطه ثغر طرابلس الموج والأفق يشع فينا، ما بقي مدّ في بحر الميناء وما امتد أفق الى البعيد البعيد!
غاب ذلك القديس الذي لم ينعزل ولم يتقوقع في صومعته. كان يتعبد لله على طريقته، فغدا أحد أنبياء العلم المؤمنين لا الملاحدة، يبشر به طوال أربعة عقود!
احب الله فأحب عباده، وفاض علمه على كثيرين من عباده! كوستي بندلي، رحمك الله، انك الآن ترتع في جنة وسعها السموات والأرض!