أيها الأحبة،
أبناءنا الأعزاء في أبرشية نيويورك وسائر أمريكا الشمالية،
ومن بعد ما يقارب نصف قرنٍ، ترجل الفارس (كما يقول اسمه) وغادرنا للقيا الحبيب الباقي. ترجل فيليبس صليبا وغادرنا أرضياً لكنه بصلواته لن ينسانا. قلب فيليبس صليبا يخفق ومن بعد موته صلاةً من أجل الكنيسة الأنطاكية في الوطن ومن أجل أغصانها النديّة في دنيا الانتشار والتي تتقوى بصلابة الجذع الأنطاكي وتزهر وتنمو لمجد الله.
يغادرنا اليوم ابن المتن في لبنان وتلميذ مدرسة الطائفة في حمص وابن الآسية في دمشق وربيب دير البلمند وملاك أبرشية نيويورك وسائر أمريكا. تغادرنا اليوم نفحةٌ حلوةٌ من تاريخ وجغرافية أنطاكية، نفحةٌ من أرز لبنان، أحبته بكل ناسه الطيبين ولفحت بحبها ياسمين دمشق وأحياء حمص القديمة وإنسان سوريا الطيب، نفحةٌ أصيلةٌ جابت أصقاع الأرض وانتقت وارتشفت منها، تماماً كنحلة باسيليوس الكبير، رحيقاً لذيذ العرف واستقرت في نيويورك وفيها سكبت رحيقها مَحبّةً لكل الناس ومنها شعت تفانياً وخدمةً في أمريكا وعشقاً للديار الأم. philip
نحن لا نتقن فن الرثاء ولسنا بأولئك الذين يرثون راقديهم. نحن نتقن خصلة العرفان بالجميل. والعرفان بالجميل لا يزكي أحداً أمام الرب بقدر ما يولد فينا روح خدمةٍ واقتداءٍ في الخدمة. نحن في أنطاكية الأرثوذكسية نجلّ هذا الرجل ونحترمه، وهو الذي “شتل” أنطاكية في قلب أمريكا صروحاً واستمرارية عطاء. اختارته العناية الإلهية أواسط ستينيات القرن الماضي ليرعى أحبتنا في أبرشية أمريكا. وانتدبته بوضع يد البطريرك ثيودوسيوس والمطارنة ليكون سفيراً لمحبة أنطاكية لأبنائها في أمريكا. وفي أمريكا، استلم المتروبوليت الشاب وقتها الكرمة الأنطاكية التي سلمتها مشيئة الروح القدس لأسلافه من أمثال روفائيل هواويني وأنطونيوس بشير، فسقاها بدمه وعرقه لفترةٍ قاربت نصف قرن. فتابع مسيرة أسلافه ورد الوزنة وزناتٍ مفتقداً الرعية ومضاعفاً الرعايا إلى خمسة أضعاف. وعرف بتبصره سنة 1975 أن يوحّد الأبرشية في أمريكا ويجمع الكل إلى واحدٍ تحت مظلة الكنيسة المقدسة. لقد ضاعفتَ يا سيدَنا الوزنة وأنميتها رعايا ومراكزَ وقريةً أنطاكيةً، تذكر الغصن الندي، الأبرشية في أمريكا، بالجذع الضارب في التاريخ، الكنيسةِ الأنطاكية. وزرعت في قلوب أبنائك حب الكنيسة وعشق الوطن الأم والمضيف وكل هذا يدنيك إلى العرش السماوي ولسان حالك قول المزمور “ها أنا ذا والأبناءَ الذين أعطانيهم الله” فكن معهم يا إلهي، قوهم وعزهم، إذ أنت دوماً معهم.
فرادة هذا الإنسان أنه استثمر عطية الروح له واستطاع أن يغرس حب كنيسة أنطاكية في قلب الديار الأمريكية فانجلى هذا الحب عملاً بشارياً وتمدداً كبيراً للأبرشية سواءَ في عدد الرعايا أو في النشاط الرعائي، الذي لم يكتفِ بعرقٍ واحدٍ، بل ضم أيضاً إخوةً لنا اقتادتهم شعلة الإيمان إلى ظل الدوحة الأنطاكية التي أورقت في أمريكا منذ أكثر من مائة عام. فرادةُ هذا الراقد تكمن في أنه عرف كيف يكون قريباً لا من جيلٍ أو رعيلٍ واحد فقط، بل أن يكون أباً للجميع في أبرشيته، يعرف قيمة الشباب ويقدر أهمية العائلة وينمي في الطفولة بذور الإيمان، ويغرس في نفوس أبنائه قيم الأصالة المشرقية. كل ذلك في تناغٍ ولا أجمل وانفتاحٍ رائع على كل مكونات المجتمع وتلاقٍ محبٍّ مع كل الكنائس غرباً وشرقاً لما فيه مجد ختنها المسيح الرب.
فيليبس صليبا غادر أنطاكية جغرافياً، لكن أنطاكية سكنت فيه القلب. حل في أمريكا، لكنه نقل إليها وإلى مسؤوليها أتعاب إنسان هذا المشرق وطيب الذكريات التي قضاها في كل ربوعه. يذكره أهل الكورة وتذكره أنطاكية بشيبها وشبابها، وتذكره حجارة دير البلمند وتذكره أجراس ديره التي دقت فرحاً وابتهاجاً يوم رأته سنة 1970 إلى جانب المثلث الرحمة الياس الرابع مكملاً أتعاب سلفه ومحققاً حلم كنيسة أنطاكية ببناء معهد اللاهوت في البلمند ليكون من أوائل الكليات التي قامت عليها جامعة البلمند، التي أسهم فيها أيضاً. تذكرك يا سيدنا التلة البلمندية بديرها وثانويتها ومعهدها. تذكرك بجامعتها البلمندية يوم قمت إلى جانب آخرين تعلي بناءها لخير بلدان هذه المنطقة ولمجد لبنان وخير إنسان هذا المشرق. إن هذه الجامعة التي تستظل بدير البلمند الخالد عرفت فيك، وكنتَ نائب مجلس أمنائها، أميناً على تراث ومحبة الأرثوذكس والمسيحيين عموماً ومقدماً تلك المحبة متجسدةً بصرح علميٍّ يرى في المعرفة سبيلاً لصهر أطياف ديارنا في بوتقة حب الله والوطن. تذكرك قريتك الوادعة أبو ميزان، وتذكرك الدار البطريركية بأحبارها الذين عاصرتَ من ألكسندروس الثالث وثيودوسيوس السادس والياس الرابع إلى إغناطيوس الرابع.
في قلب فيليبس صليبا، يسكن كل إنسانٍ معذبٍ وفي فؤاده صدى أصوات المستضعفين. في قلبه سكنت قضية الدنيا، فلسطين. في قلبه سكن مهجروها وعلى لسانه خرج صوتُ حقٍ لنصرة إنسانها ولنصرة كل مستضعفٍ وحقٍّ سليب. في قلب فيليبس صليبا سكن ويسكن لبنان وفيه انغرست جباله ووديانه وفي نفسه انعكس بياض ثلجه صفاءَ محبّةٍ للوطن الأم وقوةَ رجاءٍ من تحت رماد الحرب. لقد عز عليه كثيراً أن يرى لبنان ساحةً لحرب طاحنة استنفذت قواه لكنه فرح عندما رآه يتعافى وينهض كطائر الفينيق. وهو الآن يصلي من وراء ستار الأزمنة من أجل الوطن الجميل والجبل الأحلى الذي انغرس في نفسه وعجن طبيعته على حب الخالق وخدمة شعبه. في قلب فيليبس صليبا سكنت وتسكن سوريا. فيه يسكن إنسانها الطيب الذي يدفع فاتورةً لا طائل منها لعنف أعمى وإرهابٍ وتكفيرٍ. في قلبه تتعانق طرقات حمص القديمة مع الشارع المستقيم في دمشق وفي أعماقه ترتسم ذكرياتٌ لأناسٍ طيبين أحبهم وأحبوه، وبين كلماته يلتمع صوت الحق، أسمعهُ لصناع القرار في أمريكا وفي مشارق الدنيا ومغاربها: كفى عبثاً بسوريا وبسلام سوريا. في قلبه يسكن المشرق كل المشرق.
نضم في هذا اليوم صلواتنا إلى صلوات الأحبة في أمريكا وكندا ونسأل لفقيد الأرثوذكسية وأنطاكية والمسيحية المشرقية الرحمةَ الإلهية. نودِعك يا رب نفساً أرشدت نفوسنا وروحاً انعجَنتْ بحبكَ. نودعك أباً وأخاً وخادماً لمذبحك قدّم عمره كله بخوراً لذيذ العرف لمرضاتك. نودعك نفساً ائتمِنتْ على النفوس وناظراً سهر على نمو الرعية.
سلامي القلبي وتعازيّ الحارة لكم يا أبناءنا في أمريكا الشمالية وكندا، سلامي لكم بالمسيح، أنتم الذين شتلتم اسمه في قلبكم. أنتم أغصانُ تلك الكرمة الأنطاكية التي تعب من أجلها كثيراً الأخ الذي نودعه اليوم. قواكم الله وبارككم جميعاً.
أما أنت أيها الأخ الراقد. فنودّعك على رجاء ملقى نور الرب. ونسألك أن تصلي من حيث أنت ليبقى وهجُ أنطاكية في أمريكا شعلةَ محبةٍ نحو الجميع وليبقى الحضور الأنطاكي شاهداً لعراقة إيمان من تكنَّوا أولاً باسم المسيح. صلِّ، يا سيدنا، من أجل أبنائك في أمريكا الشمالية وفي كندا. صلّ من أجلي ومن أجل الإخوة المطارنة، كي ينير الله دربنا وسط ما يعصف بكنيستنا وأوطاننا وأناسها الطيبين.
قل للمخلص أن يسكب جداول سلامه على المشرق. قل له أن ديار المشرق سئمت لغة الدمار وأن النفوس تاقت إلى سلامه العذب. صلِّ إليه، كما دوما فعلتَ، أن يحفظ لبنان ويزود عن أرزه ويقويَ فيه العيش الواحد رغم ضعفات البشر. سله أن يُسكت صوت القلاقل في سوريا وأن يضع في قلوب أبنائها بلسم المصالحة وينفحَ الأذهان بنفحةٍ من سلامه الحق.
نودّعك يا سيدي بحزنٍ أرضيٍ ورهجةِ فرحٍ قياميٍّ ونسأل المسيح الرب بشفاعات أمه البتول وتلميذه فيليبس أن يسكنك حيث يلتمع نور وجهه القدوس، تباركَ وتمجد أبد الدهور آمين.
المسيح قام، حقاً قام.