طرابلس الأليفة والمألوفة

الأب جورج مسّوح Wednesday April 16, 2014 162

شاركت وأحمد القصص رئيس المكتب الإعلاميّ لحزب التحرير – ولاية لبنان، ضمن فعاليّات معرض الكتاب السنويّ في معرض رشيد كرامي الدوليّ – طرابلس، في ندوة دعت إليها “الرابطة الثقافيّة في طرابلس”، عنوانها “التعدّد الدينيّ في المجتمع الإسلاميّ، نقاش في دلالة أهل الذمّة في الفقه الإسلاميّ”. لن أتناول، هنا، تفاصيل الندوة ودقائقها، فالمجال يضيق بنا. بيد أنّني أريد أن أنقل إليكم بعض الانطباعات التي كوّنتها جرّاء مشاركتي في هذا الحدث الثقافيّ الذي حضره حشد كبير ضمّ شرائح عديدة ومتنوّعة من أهالي طرابلس.

على الرغم من التباين الشديد في الرأي ما بين المحاضرَين، ساد جوّ من الحوار الهادئ والاحترام المتبادل. فأحمد القصص ينتمي إلى حزب يسعى إلى عودة الخلافة وقيام الدولة الإسلاميّة وتطبيق الشريعة، ومن ضمنها أحكام أهل الذمّة الخاصّة بأهل الكتاب من مسيحيّين ويهود وسواهم… أمّا كاتب هذه السطور، فيدعو إلى المواطنة والمساواة والدولة المدنيّة بكلّ ما يحمله لفظ “مدنيّة” من معانٍ، ولا سيّما الفصل ما بين الدين والدولة.

أن تحتضن طرابلس حوارًا إسلاميًّا مسيحيًّا في شأن موقع “أهل الذمّة” في الدولة الإسلاميّة ينبغي أن يكون أمرًا مألوفًا. لكن، إذا صدقّنا ما يشاع عن هذه المدينة، فهذا الأمر يبدو مستحيلاً. غير أنّ الواقع أفادنا أنّ طرابلس ما زالت أمينة لتاريخها وانفتاحها على تعدّد الآراء وتنوّعها. فأن يخاطب كاهن مسيحيّ حشدًا كبيرًا، غالبيّته إسلاميّة، رافضًا ما يعتبره هذا الحشد أساس رؤيته للدولة ولنظام الحكم، تجعلنا نقول إنّ طرابلس، حقًّا، لا تستحقّ ما يقال عنها وما يُطلق عليها من صفات مسيئة لها ولأهلها.

ليس أدلّ على الانفتاح من دعوة كاهن مسيحيّ لإبداء الرأي، أمام جمهور إسلاميّ، في شأن “فقهيّ إسلامي”، وإن اتّصل هذا الشأن بوضع المسيحيّين في ظلّ الدولة الإسلاميّة الموعودة. وليس أدلّ على الانفتاح من أن يصغي هذا الجمهور إلى المحاضر ينتقد مفهوم “أهل الذمّة” معتبرًا أنّه لا يتلاءم وعصرنا الحديث، وأنّه ربّما كان ممتازًا منذ أربعة عشر قرنًا. لكنّه اليوم بات غير مقبول، بل مرفوضًا، وبخاصّة في ظلّ انقسام الأمّة الإسلاميّة إلى أوطان مستقلّة، الواقع الذي يرفضه المنتمون إلى حزب التحرير.

طرابلس هي نموذج المدينة العربيّة التي شهدت، عبر التاريخ، فصولاً مشرّفة من التعدّد والتنوّع الدينيّ والمذهبيّ والسياسيّ والاجتماعيّ. فمنذ نشوء الإسلام، احتضنت طرابلس، وبيروت وصيدا ودمشق وحلب وحمص وحماه واللاذقيّة والقدس وبغداد والموصل، وسواها من المدن العربيّة، المسيحيّين والمسلمين. لكن لكلّ زمن وسياق نظامه، فما كان مقبولاً منذ قرون، حتّى منذ سنوات، قد لا يكون مقبولاً اليوم. من هنا، كانت دعوتنا إلى الشراكة الوطنيّة التي تقوم على المساواة التامّة في الحقوق والواجبات.

طرابلس ليست مدينة “التكفيريّين”، ليست مدينة “العنف الدينيّ”. طرابلس ليست مدينة التعصّب الأعمى، ليست مدينة الإرهاب. طرابلس ليست مدينة “إسلاميّة” وحسب، هي مدينة لكلّ أبنائها، مدينة متنوّعة تنوّع ألوان قوس قزح. طرابلس ليس مدينة مذهبيّة منغلقة على ذاتها، بل هي وأبناؤها البررة ضحيّة الإهمال والاستغلال المذهبيّ في سبيل مصالح بعض السياسيّين. لطرابلس وأهلها كافّة كلّ الودّ.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،16 نيسان 2014

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share