“… نحنُ الـمُنْشِدِينَ نَشِيدَ النَّصْرِ والظَّفَر”. عِبارَةٌ نُرَدِّدُها في كُلِّ خِدَمةٍ ليتورْجِيَّةٍ فِصْحِيَّةٍ. “الـمُنْشِدُون” هم الشَّعبُ المؤْمِنُ. أمَّا “النَّصْرُ والظَّفر” 1- فَمَنْ هُوَ صاحِبُهُمَا؟ 2- ضِدَّ مَنْ كانا؟ 3- ومَنِ الـمُسْتَفِيدُ مِنْهُما؟
مِنَ المؤكَّدِ أنَّ نَصْرَ الفِصْحِ هُوَ للمسيحِ الَّذي حَقَّقَ، خلالَ حَياتِهِ بَيْنَنَا، ٱنْتِصَارًا ضِدَّ مُجْمَلِ قِوَى الشَّرِّ، وبالأخَصِّ ضِدَّ إبليس. هذا ما تُصَوِّرُه لنا إيقونة القيامة: إبليسُ مُكَبَّلٌ تحت قَدَميْ المسيحِ النَّاهِض من بين الأموات. غَلَبَةُ المسيح على إبليس هي الوجهُ الأوَّلُ مِن وَجْهَيِ النَّقْدِ الفِصْحِيِّ الظَّفَرِيّ. وَجْهُهُ الثَّاني هو غَلَبَةُ المسيح على الموت، “ليقضِيَ بموتِه على ذاكَ الَّذي يقدِرُ أن يُميتَ، أعْني به إبليس” (عب 2: 14). الظَّفَرُ على إبليس هُوَ، في نهايَةِ الَمَطَافِ، ظَفَرٌ على الموت. فإبليسُ هو مَصْدَرُ الموتِ وناشِرُه بين خَلْقِ الله. قيامَةُ المسيح تَحْقِيقٌ لهذا الظَّفَرِ وإعلانٌ له.
هذا النَّصْرُ ليس نَصْرًا ماورائيًّا، بل هُو حَدَثٌ وُجُودِيٌّ وبراغماتِيّ (أي عملانيّ). لأنَّ قيامَةَ المسيح لم تحْدُثْ في عالم آخَر، ولم تَكُنْ حَدَثًا مُرْجَأً إلى زمنٍ أُخْرَوِيٍّ. بَلْ هِيَ حَدَثٌ تاريخِيٌّ، وتاريخيَّتُهُ، بالرُغم من أنَّها مُغايِرَةٌ لتاريخيَّةِ أحْداثِ الزَّمن الحاضِر، تَحْمِلُ وَثَائِقِيَّتَهُ وبراهينَهُ: قبرٌ فارِغٌ، كَفَنٌ وجَسَدٌ غائِبٌ.
في قَوْلِنا أنَّ صاحِبَ النَّصْرِ هُوَ المسيحُ، وليس اللهُ أو الاِبنُ، نكونُ قَدْ مَيَّزْنَا بين المسيح وبين الله أو بَيْنَه وبينَ أُقنومِ الاِبنِ. التَّمَيُّزُ هُنا مَقْصُودٌ وفيه تَكْمُنُ أُسُسُ إِدْرَاكِنَا لأهمِّيَّة القِيامَةِ في حياتِنَا نحن البشرَ. في قَوْلِنا “المسيح” نَعْني يَسوعَ المسيحَ الإلهَ المُتجسِّد، الَّذي يحمِلُ في شَخْصِه الواحِدِ طبيعةَ اللهِ الكامِلَةَ وطبيعةَ الإنسانِ الكامِلَة. ففي شخَصِ يسوعَ المسيحِ لا يكونُ صاحِبُ النَّصِرِ ٱبْنَ الله وَحْدَه، بلِ الإنسانُ يسوعُ المسيحُ أيضًا. وهذا ما يُشَدِّدُ عليه تَعلَيمُ كنيستِنَا، بأنَّ طَبِيعَتَي المسيحِ الإلهيَّةَ والإنسانِيَّةَ لَمْ تَنْفَصِلا عن بَعْضِهِما مُنْذُ لحظةِ الحَبَلِ حتِّى لحظةِ الصُّعود، ولن تنفصلا إلى الأبد. إنَّ عيشَنَا لعقيدة التَّجّسُّدِ هُوَ في أساسِ إدْراكِنَا وعيْشِنَا لِفَرح القيامةِ وظَفَرِها. وهذا ما تُعَبِّرُ عُنْهُ خَيْرَ تَعبيرٍ الآيةُ الكتابيَّةُ:
“ولـمَّـا كانَ الأبناءُ شُركاءَ في الدَّمِ واللَّحم، شاركَهُم هُوَ فيهِما أيضًا ليقضِيَ بموتِه على ذاك الَّذي يَقْدِرُ أَنْ يُمِيتَ، أَعْنِي به إبليس، ويُعْتِقَ الَّذين ظَلُّوا طوالَ حياتِهِم في العُبودِيَّة مَخَافَةَ الموتِ”. (عب 2: 14-15).
ما هُوَ جديدٌ في قِيامَةِ المسيح ليسَ ٱنْتِصَارَ اللهِ على الْـمَوْت، فهذا حاصِلٌ سَرْمَدًا وأَبَدًا، كَـوْنَ اللهِ ضابِطًا الكُلَّ وكُلِّيَّ القُدرة، وليس للموتِ عليه مِن سُلطانٍ أو أَثَرٍ. الجديدُ في فِصْحِ المسيحِ أنَّ إنسانًا جديدًا، وهو آدم الجديد، قدْ غَلَبَ الموتَ كَوْنَهُ مُتِّحِداً بالله. لذا، أَصَرَّ يسوع في ظُهوراته لتلاميذه بعد القيامةِ على أنَّهُ قامَ بجَسَدِه المَصْلُوب.
هنا نُجِيبُ عن التَّسَاؤُلِ الثَّالِثِ المذكورِ في مطلعِ هذه الكلمة . لِصالِح مَنْ؟ مَنْ هُوَ المستَفِيدُ مِن هذا النَّصْر؟ حاشا لنا أنْ نَرُدَّ المصلَحَةَ والإفادَةَ إلى الله! هو المُتَعَالي والمُكْتَفِي والمُنَّزَه عن أيَّةِ مَنْفَعَة. هُو المحبَّةُ الَّتي لا تَطْلُبُ شيئًا لذاتِها، “لأنَّ المسيحَ أيضًا لم يُرْضِ نفسَه” (روم 15 : 3). المُستفيدُ الأوَّل من هذه القيامة، مِن هذا النَّصْرِ هو الإنسانُ، “فإنَّهُ لم يَقُمْ لنُصْرَةِ الملائكة، بل قامَ لنُصْرَةِ نسلِ إبراهيم”. (عب 2: 16). في شخص المسيح (الإله – الإنسان) تَحَقَّقَ أوَّلُ نصرٍ للإنسان على إبليس وعلى الموت، وفُتِحَ بابُ الإنتصارات الـمُغْلَق قَبْلاً، لِمَنْ أرادَ سُلوكَ دربِ الصَّليب والجِهَاد.
التَّمييزُ هنا بين فرح القيامة ونصرها من جهة، وقيامة الأجساد من جهة أُخرى، واجِبٌ وضروريٌّ. فقيامةُ الأجساد عطيَّةٌ مجَّانِيَّةٌ لكلِّ البشر، أمَّا النَّصْرُ والفرحُ النَّابِعَان من قيامَةِ المسيح فهُما أيضًا عَطيَّتَان مجَّانيَّتَان، لكنَّهُما لن تُعْطَيَا إلَّا لِمَنْ كَفَرَ بنفسِه وحملَ صليبَه وتَبِعَ المسيح. ففرحُ القيامةِ ونَصْرُهَا لنْ يتذوَّقَهُما الإنسان إلَّا بَعْدَ جهادٍ وأَلَمٍ نابَعَيْن من محبَّة باذِلَةٍ. سيتذوَّقُهُمُا بالجسَدِ في عُمرِه الحاضِرِ كعُربُونِ حياةٍ أبديَّة، وكحياة أبديَّةٍ بعد قيامةِ جسدِه في اليَوْمِ الأخير.