آية من تلاوة تلازمُ الجدّة والعتاقة!

mjoa Thursday May 15, 2014 110

الآية هي الأولى. والإصحاح هو السّادس. والسِّفر هو أعمال الرّسل. والتّلاوة من أحد حاملات الطّيب. والنّصّ هو: “في تلك الأيّام، لما تكاثر التّلاميذ، حدث تذمّر من اليونانيِّين على العبرانيِّين بأنّ أراملهم كُنّ يُهمَلن في الخدمة اليوميّة”.

   التّلاميذ، هنا، هم الّذين آمنوا بالرّبّ يسوع. هؤلاء غير الإثني عشر والسّبعين. لا إيمان حقيقيّ موجودًا دون تلمذة. ثمّة سيرورة. يُلمَس القلب. ينفتح. يَسمع. يؤخَذ بالكلمة. يدخل نطاق الكرازة. يتتلمذ. فيؤمن. ويبقى متتلمذًا، على كلمة الله في إشعياء النّبيّ: “كلّ بنيك تلاميذ الرّبّ” (54: 13)، يكونون “متعلِّمين من الله” (يوحنّا 6: 45). إذًا، التّلمذة لا تقف عند حدّ، فعل دائم. رغم ذلك، مآلها الرّسوليّة في المدى. التّلاميذ الأوائل ترجّحوا بين التّلمذة والرّسوليّة. طبعًا، الإثنا عشر لهم سمتهم الخاصّة. لكنّ ثمّة رسوليّة عامّة شاملةً الجميع. الآخذ من الله عِلمًا، لا يأخذ لنفسه وحسب، بل هو مرسَل من الله، أيضًا، ليكرز بالكلمة ويبثّ روحًا. نحن آل التّسليم! نأخذ من فوق ما يأتينا بالنّاس، لنُسْلِمه، هو إيّاه، للنّاس. هذا ما تحدّث عنه يوحنّا، في رسالته الثّانية، لمّا قال: “إن كان أحد يأتيكم، ولا يجيء بهذا التّعليم، فلا تقبلوه في البيت ولا تقولوا له سلام” (10). هكذا انتقلت وتنتقل كلمة الحياة من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء، وتبقى، هي إيّاها، بالرّوح والحقّ، جيلاً بعد جيل. ليس أحد يضيف إلى ما قيل جديدًا، ولو استوضحه وقرأ، في ضوئه، كلّ جديد. وهذا لا يستقيم إلاّ بروح الله إن لزمناه. ليس العقل بديلاً عن الرّوح، بل في خدمته؛ لذا، نجدنا “مستأسِرين كلّ فكر إلى طاعة المسيح” (2 كورنثوس 10: 5)!

   وتكاثرَ التّلاميذ. هذا ليس لأنّ الرّسل كانوا ينادون بتعليم جديد، وحسب، ولكلّ جديد مُغْوَوه، كما في الآريوس باغوس (أعمال)! وما أكثر ما يُمطِر النّاسُ النّاسَ بكلّ تعليم جديد ليستأسروهم، ولا جديد، في الحقيقة، تحت الشّمس! بل التّكاثرُ والجدّةُ، في إطار الكرازة بإنجيل الخلاص، نَجَما عن كون الرّبّ كان “يعمل معهم ويثبِّت الكلام بالآيات التّابعة” (مرقس 16: 20). وهذا ما كان ليتأتّى لو لم يسلك الرّسل، بأمانة وشفافية كاملتَين، تجاه ربّهم!

   حدث تذمّر من اليونانيِّين على العبرانيِّين. هؤلاء وأولئك قبلوا الإيمان بالرّبّ يسوع المسيح. كلُّهم، إلى ذلك الحين، كانوا يهودًا. غير اليهود كانوا يُسمَّون، أو، بالأحرى، يوصفون بـ”الدّخلاء” (أعمال 6: 5). العبرانيّون هم اليهود المحلّيّون، واليونانيّون هم يهود الشّتات. ثمّة واقع، هنا، يجدر التّوقّف عنده. المؤمنون، في كلّ جيل، وإن اتّفقوا في الإيمان، يبقى إمكان الخلاف، فيما بينهم، واردًا: لأسباب شخصيّة (كبطرس وبولس، أو كبولس وبرنابا)، أو لأسباب فئويّة (اليهود والأمم، العبرانيّون واليونانيّون…)، أصوليّة، أو عرقيّة، أو قوميّة، أو مناطقيّة… المهمّ، دائمًا، بإزاء ذلك، أَلا نغلِّب الخلافَ الشّخصيّ أو الدّهريّ على وحدة الإيمان بالرّبّ يسوع، فيما بيننا. أن نجعله اختلافًا يُغني لا خلافًا يفرِّق! وأَلاّ نستعمل ما هو من الكنيسة مطيّة لما هو من هذا العالم! هذه، في زمن العقلنة والنّزاعات القوميّة والدّوليّة، اليوم، تجربةٌ شائعة وشائنة وقاسية، تفضي، أحيانًا كثيرة، إلى الإغضاء عن حقّ الإنجيل لدى المتنازعين، كلاً بإزاء الآخر، خدمةً لمرامٍ تجرح الإيمان وتسيء إلى الكنيسة. دونك، مثلاً، حدّة الصّراعات المقضّة، في إطار الأرثوذكسيّة، على السّلطة والتّسيّد والرّئاسة، ما يتسبّب في شحوب الأرثوذكسيّة الحقّ، والعثرة، إن لم يكن ضياع الشّهادة لوحدة المحبّة في الحقّ! أكثر من بلبلة، ثمّة خطرٌ حقيقيّ على الأرثوذكسيّة، ربّما لا في شأن نصّ دستور إيمانها، بل في شأن مسيرتها الوحدويّة الرّوحيّة المحبّيّة، ما يجوِّف العقيدة واللاّهوت إذ يفرغهما من مضمونهما الحيويّ الإلهيّ!

   ما كان سبب التّذمّر؟ أرامل اليونانيِّين كنّ يُغفَل عنهنّ في الخدمة اليوميّة دون العبرانيّات. محاباة الوجوه دائمًا واردة حتّى في صفوف المؤمنين! إذا ما كان هذا صحيحًا في زمن الفيض الرّوحيّ لتلك الأيّام، فماذا عنه في زمن الشّحّ لهذه الأيّام! ولو كان أحدٌ مؤمنًا بالرّبّ يسوع، بكلّ صدق، فإنّ إيمانه لا يُعفيه من ازدواجيّة الإنسان العتيق والإنسان الجديد، بصورة تلقائيّة، في نفسه. هذا الكنزُ، لنا إيّاه في آنية خزفيّة. القوّة في الضّعف لكي ننمو، إلى النّعمة، في الاتّضاع، ولا نستكبر! هناك اقتبالٌ للإيمان، وهناك تمثّلٌ للإيمان. تمثُّلُ الإيمان يستدعي، إلى نعمة خاصّة من فوق، من حيث إنّنا من دون الرّبّ يسوع لا نستطيع شيئًا، أقول يستدعي يقظةً وسعيًا حثيثًا إلى التّواضع الحيّ وجهدًا جهيدًا، من قِبَلنا! وهذا قد يستمرّ قليلاً أو كثيرًا. المعيار ما في القلب من أصالة ونقاوة وشوق! التّربية البيتيّة، في هذا الصّدد، هي المساعد الأكبر؛ عِلمًا أنّ ما عند الله، علاّمِ القلب، ما ليس عند النّاس، في تعاطي البشريّة! ما لا نعرف، والله أَعلَم، أكثرُ، بما لا يُقاس، مِمّا نعرف! ومتى كَمُل زمان العبور إلى وجه الله، ندخل في ما يُعرَف، عندنا، بـ”اللاّهوى”! الرّوح القدس يصير مُفَعَّلاً فينا بالكامل، وبصورة تلقائيّة! يصير لنا كالنَفَس فينا! إذ ذاك، لا تعود لأهواء النّفْس والجسد لدينا قوّة! الإنسان العتيق فينا يموت، ونمسي، نحن، بمثابة ملائكة أرضيِّين، أو بشر سمائيّين! إقامتنا، في الأرض، إثر ذلك، لا تعود طويلة! لا يبقى لها مبرِّر سوى الإذاعة بمجد الله! وهذا، في الخبرة، يكون إلى حين، على مثال الأربعين يومًا الّتي كان فيها الرّبّ يسوع، على الأرض، بعد قيامته؛ ثمّ كما صعد إلى السّماء، يؤخذ الّذين بَلغوا الأشُدّ، في الرّوح، ليُستَودعوا المخازنَ السّماويّة!

   الخدمة اليوميّة، المراد بها “الإعاشة”! الأرامل، كنَّ، في الواقع الاقتصاديّ لذاك الزّمان، كالعميان، عنوانَ الفقر والحاجة! القادر، يومها، في مطلع الكنيسة، كان يعيل العاجز! كلّ شيء، بين المؤمنين، كان مشتركًا (أعمال 4: 32)! ومع ذلك، ولو توفّرت مصادر الرّزق، لم تصل إلى كلّ محتاج، لأنّ التّوزيع لم يكن مجرّدًا وعادلاً! هناك طمعٌ ومحسوبيّةٌ تلقائيّان، يجدر بالمؤمنين مقاومتهما، حتّى يبقى المذبحُ الأوّل لله، بيننا، الّذي هو المحتاج، طاهرًا نقيًّا، تُرفع من فوقه، ذبائحُ التّسبيح! ليس الهمّ الحقيقيّ، عندنا، أنّنا نعاني الطّمع والمحسوبيّة، بل أن نطبِّعهما ولا نقاومهما، بجدّ، حتّى لا يكونا من بعد! ما هو من الإنسان العتيق نقاومه إلى المنتهى، كائنًا ما كان، ولا نبرِّره بحال، حتّى يكون سعيُنا الدّؤوب، لا إلى استئصال الخطيئة فقط، بل إلى استئصال جذور الخطيئة، بالأَولى! هذا لا نسعى إلى القيام به وحسب، بل نقوم به بعناد وثبات إلى المنتهى، ونحن مدرِكون أنّنا لا نستطيع شيئًا، في شأنه، من دون الله؛ فيُعطى لنا، إذ ذاك، لا عن قوّة منّا، بل من نعمة الله وقوّته الفاعلتَين في عقمنا وضعفنا!

   على هذا، لا نستسلم لضعف ولا نبرِّره، كوننا بشرًا، بل نقبل أنّنا لحم ودم، أنّنا تراب ورماد، ونقاوم كلّ ضعف، في آن، إلى حدود الطّاقة، بعزم وعنف كاملَين، لكي لا يكون ضعفُنا مطرحًا مُسَيَّبًا لكلّ هوى خبيث، ولكي تحلّ، من ثمّ، في ضعفنا، قوّة المسيح!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share