لئلاّ نصبح مجتمعًا برسم البيع

mjoa Thursday May 15, 2014 652

قالت فيما تبكي: “عدتُ لا أقدر على ضبط ابني. أَكمَلَ سنته الثامنة عشرة، وأخذته محبّة البعثرة. يعتقد أنّه بات راشدًا، وأنّ من حقّه أن يفعل كلّ ما يحلو له. قَبْلَ سنته هذه، ما كان يردّ لي، أو لأبيه، أيّ طلب. كلّ ما نقوله له كان يعنيه. أمّا اليوم، فبات يعاندنا كثيرًا. يخرج من دون إذن، ويرجع متى يشاء. طلبُ الإذن بات يعتبره تدخّلاً في شؤونه الخاصّة وحجزًا لحرّيّته. خوفي عليه كبير. لا أريد أن أخسره. ولا أعرف إلى متى سأنتظر حتّى يصطلح. لقد سلّمته لله. كلّ ما أفعله أنّني أصلّي له”.

سألتُها: “هل من سبب آخر، برأيك، لهذا التغيير؟”.

أجابت: “لا أريد أن أحصر السبب برفاقه الجدد (أي رفاق الجامعة التي انتسب إليها). كلّ ما يمكنني ذكره أنّه كان، قَبْلاً، أكثر اتّزانًا. كان يصلّي يوميًّا، ويذهب معي إلى الكنيسة في كلّ يوم أحد. وهذا كلّه صار لا يعنيه، لا من قريب ولا بعيد. صار لكلّ يوم من أيّامه مشروعُهُ. ويوم السبت يخرج مساء، ولا يرجع قَبْلَ الفجر. يخلد إلى سريره، ويستيقظ بعد الظهر”. وأنهت: “تصوّر، منزلنا بات فندقًا!”.

حال هذه السيّدة قد تكون حال عائلات كثيرة. وما طرحتْهُ، معلومًا، يستحقّ أن تُفرد له جلسات خاصّة وعامّة، ويبحث بهدوء وجدّيّة وموضوعيّة. الوقت ضيّق. والأوبئة يزداد انتشارها في كلّ يوم. وما دمنا مجتمعًا قائمًا على النقل عمومًا، أي نقل ما نحسبه باهرًا في مجتمعات أخرى، وما دام العالم كلّه بات أمام عينينا وبين يدينا (الفضائيّات، ووسائل التواصل الحديثة…)، فاستباحتُنا ممكنة دائمًا، بل حدثت! وليس لنا سوى أن نفكّر في سبل إنقاذنا، ونسعى، جاهدين، إلى اكتشاف الحلول الناجعة لنا.

ربّما لن تحمل هذه السطور حلولاً ترضي كلّ مَن سيقرأها. لكن، لا نكون موضوعيّين إن رفضنا أيّ طرح يدعونا إلى التفكير في إمكان تبنّيه. فنحن لا نستطيع أن نلقى مشاكلنا، ونكتفي بوصفها، أو بالبكاء على حالنا. يجب أن نجدّ جدّنا، لنرى ما علينا فعله، لنسترجع فرادتنا، ونلقى خلاصنا، ونثبت فيه.

قلتُ إنّ حال هذه السيّدة قد تكون عامّة. وهذا لا يعوزه إحصاء. أمور عديدة يمكن أن تدلّ عليه. مثلاً: قلّة عدد الشباب في الكنائس، الرسوب في المدارس والجامعات، إقبال الكثيرين على النوادي الليليّة، السهر، انحلال الأخلاق، معاقرة الخمور، تعاطي المخدّرات، وغيرها. ومن النوافل القول إنّ علماء الاجتماع يجمعون على أنّ أوّل سبب لانتشار معظم هذه الآفات هو تشجيع الرفقة، وتليه الفضوليّة، أو حبّ التجربة. والنتيجة أنّ شبابنا رهن مجتمع ضعيف، الخطايا تكاد تغدو فيه أقوى من ردعها!

هذا، طبعًا، لا يليق بنا أن نغضّ طرفَنا عنه، أو أن نذكره كما لو أنّ حلّه مستحيل. لقد ذكرتُ ما قالته تلك السيّدة. لكنّي لم أذكر، ممّا قلتُهُ لها، سوى سؤالي الوحيد. وما لم أُبيّنه، أختصره بالتالي:

“في سياق استكمال تربية أيّ شابّ، أو مواجهة بعثرته، يُنتظَر منّا أن نبقى نكلّمه بالحُسنى. والكلام الحسن، الذي عدوّه الانفعال، دعامته الحكمة وفهم الآخر وما يحرّكه في موقفه. وإن لم يظهر تأثير كلامنا في أوان قوله، فشأننا أن نتشجّع على الاعتقاد أنّ الكلمة، التي نقولها برضًى وموضوعيّة والتي نواكبها بدعاء موصول، لا يمكن أن تخسر فعلها. تبقى. تئنّ. وتعبّد، لذاتها، دروب نجاحها. فكم من شابّ كلّمه أبوه أو أمّه، وبدا، في أوان الحديث، متشنّجًا ورافضًا. ثمّ عاد بعد حين، وأظهر قبولاً لكلامٍ بقي فيه”.

ليس هذا، وحده، ما أعتقده حلاًّ. فالحلّ الكامل يفترض، إلى ما مرّ ذكره، أن نشجّع أولادنا على أن ينضووا، منذ نعومة أظفارهم (سنّهم الخامسة مثلاً)، إلى “الاجتماعات التعليميّة” في كنيسة رعيّـتهم (أي ألاّ نكتفي بالدروس الدينيّة التي يتلقّاها معظمهم في مدارس مسيحيّة). لقد عرفتُ أناسًا رفضوا، بشدّة، أن يشارك أولادهم في لقاء كنسيّ يضمّهم إلى أترابٍ من عمرهم. وكانوا يُفضّلون لهم أن يبقوا في البيت يتابعون دروسهم، وأن تكون لهم نشاطاتهم. وسمعتُ آخرين يبرّرون غياب أولادهم عن الحياة الكنسيّة (قدّاس يوم الأحد، مثلاً) بحجج تُرضيهم. ورأيتُ كثيرين يفرحون بأطفالهم إن شتموا. وسمعتُ بعضًا منهم يُعلّمونهم الشتم، ويُقهقهون عاليًا إذا فعلوا. هذا أَذكُره، لأُبيّن، آسفًا، أنّ ما نحصده نكون نحن، في أحيان كثيرة، عن قصد أو غير قصد، قد زرعناه. ولذلك، أرى أنّ من واجبنا أن نُعلن سريعًا، وبصوت قويّ، أنّ كنيستنا هي المجتمع الذي نرغب في أن يتربّى أولادنا فيه. فهنا الرفقة والمرافقة. فإذا كان الناس في هذا العالم قادرين بعضُهم على إفساد بعض، فحِصنُ مَن خرجوا من صُلبنا هو كنيستهم ومَن أَعطوا حياتهم، ليساعدوا في تربيتهم وإرشادهم إلى الحقّ. يجب أن يُصادق أولادُنا أشخاصًا يحبّون البرّ، ويرون، في العلاقة بالله، الحياة ومضمونها. يجب أن نشجّعهم على أن ينخرطوا في الموقع الذي ليس فيه أيّ تباين ما بين القول الحقّ والحياة الحقّ، لنستشرف وعيهم متى كبروا، ونرجو لهم أن يحملوا كنيستهم في المستقبل.

أمّا الشباب الذين شبّوا بعيدًا من حضن كنيستهم، أو أهملوها بعد أن كبروا، فلهم منّا المحبّة والصبر والكلمة الراضية والدعاء والتشجيع عينه. ولا بأس ببعض شدّة أحيانًا. هذا كلّه، لئلاّ نصبح مجتمعًا برسم البيع. هذا، لنسترجع أولادَنا، ونطمح إلى مجتمع راضٍ لهم مساهماتٌ في صنعِهِ.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share