غسل السّامريّة بالماء والكلمة، للبشارة!…

mjoa Monday May 19, 2014 79

   “كما يشتاقُ الأيّلُ إلى ينابيعِ المياهِ، كذلك تشتاقُ نفسي إليكَ يا اللهُ… ظمئَتْ نفسي إلى الإلهِ الحيِّ. فمتى أجيءُ وأظهرُ قدّامُ اللهِ… صارَتْ دموعي خُبزاً لي نهاراً وليلاً، إذ قيل لي في كلّ يوم: أين هو إلهُـكَ”؟؟!! (مز 41).

   هذه صرخةُ الإنسانِ في بشريّتِهِ وبحثِهِ عن الإلهِ إذْ يعيشُ عمرَهُ في التّفتيشِ عنِ الفرحِ والسّلامِ والصّحةِ، لِوَعْي حياتِهِ قبلَ موتِهِ!!.

   لكنْ، من بدءِ المسيرةِ، عبرَها، وحتّى أواخرِها، ينشغلُ الإنسانُ بما تطلبُهُ أهواؤُهُ، ويبدأُ بحثَهُ عن ذاتِهِ لإشباعِ لذائذِها.. وإذْ تتعوَّدُ النّفسُ إشباعَ نوازِعِها ومبتغاها، تفرحُ شيئًا فشيئًا، بما تُنْجِز، فينزاحُ قطبُ تركيزِها عن خالقِها لتُكثِرَ ثمارَها، وزَرْعَ إبداعاتَها وبناءَ عالمِها، بذاتِها وقدراتِها بعيداً عن الله خالقِها!!…

   هكذا تبدأُ كلَّ يومٍ مسيرةُ البشريّةِ ولا تعودُ تتوّقفُ، حتّى يتبيَّنَ الإنسانُ ضعفَه وعجزَه ومحدوديّةَ قدراتِه وهشاشةَ جسدِه في اللّحاقِ بمبتغاهُ، فييأسَ ويصرخَ: “أين أنتَ يا إلهي؟! لماذا تركتَني؟!”…

   وتندثرُ الأحلامُ، لأنّ الإنسانَ، شيئاً فشيئاً، يتخلّى عن اتّكالِه الكاملِ على إلهِهِ، بل عن تسليمِ ذاتِهِ له، ليعملَ فيه صلاحَه الّذي لا ابتداءَ ولا انتهاءَ له، فيسقطَ، تاليًا، في دوّاماتِ الفراغِ واليأسِ من العالمِ الّذي يحيا فيهِ طلبًا للثّابتِ!!.

   وكانتِ “السّامريّةُ” إحدى أولى النسوةِ اللواتي عبرَ يسوعُ المسيحُ في بلادِها، إذ أتاها الرّبُ إلى مدينتِها في السّامرةِ واسمُها سوخار… إلى عينِ يعقوبَ، عطشانًا ليستقيَ الماءَ وهو سيّدُ الينابيعِ والعيونِ والبحارِ!.

   وكان العبورُ قربَ العينِ، للغسلِ، للإطلاقِ والبشارةِ بالخلاصِ!!…

   لماذا ذهبَ يسوعُ “الإنسانُ اليهوديّ”، بلِ “الرّجلُ”، ذاك اليهوديُّ، إلى مدينةِ غربتِهِ عن شعبِهِ اليهوديِّ ليستقيَ ماءً من عينٍ غريبةٍ؟!… وليلتقيَ امرأةً غريبةً؟!. بل ليلتقيَ امرأةَ البشارةِ؟!.. ألم يكن يعرفُ، وهو الرّجلُ اليهوديُّ، أنْ لا خلطةَ له معَ السّامريينَ؟! ومع النّسوةِ؟؟.

   الرّبُ اليوم أتى شعبًا بالمرأةِ، لتبشِّرَ بهِ هو المسيح!!.

   الأحداثُ تتتالى في هذه التّلاوةِ الإنجيليّةِ من القدّيسِ الرّسولِ يوحنّا في الأحدِ الرّابعِ بعد فصحِ الرّبِّ وقيامتِهِ من بينِ الأمواتِ.

   كان يسوعُ قد تَعِبَ من المسيرِ فجلسَ إلى العينِ… أليشربَ من ماءِ الأعداءِ الّذين لم يتعرّفوا إليهِ بعدُ؟!… أو حتّى يجلسَ “إلى العينِ” تَعِبًا عطشانًا؟!… فجاءَتِ امرأةٌ من السّامرةِ لتستقيَ ماءً، فقالَ لها يسوعُ: “أعطيني لأشربَ”… وحدَهُ وُجِدَ معها، فبادَرَها!! لأنّ المسيرَ كان طويلاً ولم يكنْ معه تلاميذُه، إذ أطلقَهم ليبتاعوا طعاماً!!. وبقيَ وحدَهُ خصّيصاً، عارفاً أنّ تلكَ المرأةَ السّامريّةَ ستأتي لتستقيَ ماءً “لها ولأهل بيتها”، ولم يكنْ ممكناً له أن يكلّمَها بحضورِ التّلاميذ، لأنّهما شَعْبانِ لا يتخالطانِ، ولأنّهُ هو “رجلٌ” وهي “امرأةٌ”!!…

   وامتدَّ الإلهُ الخالقُ، طالبًا عنصرَ الحياةِ… الماءَ!!…

“أَعطيني لأشربَ”!! من يردُّ سؤلَ إنسانٍ عطشانٍ؟؟. واندرجَ كلُّ ماضي المرأةِ أمامَ عينيها!!. حياتُها، معتقداتُها، شعبُها، تقاليدُ بلادِها، وخصوصيّةُ وجعِها وعمقُه وحميميّةُ نفسِها!!.

   اليومَ يصطادُ الرّبُ من الماءِ سمكةَ الخلاصِ لها ولشعبِها!!…

   كانت السّامريّة صيداً ثميناً ليسوعَ!!. تصيّدَها هي ومنها شعبَها بكاملِهِ!!… والرّبُ يتصيّدُ للخلاصِ!!. بالصّحةِ… بالوجعِ… بالمرضِ… بالفقرِ… بالنّكباتِ… بالتّجاربِ… بكلِّ طريقةٍ ليأتيَ بالمجرَّبِ… إليهِ هو!!…

   هنا يبدأُ هذا الإنجيلُ، وهنا تتأكّدُ حكايةُ تجسّدِ الإلهِ ليَجْمَعَ كلَّ المتفرّقاتِ والشّعوبِ والبشريّةِ إليهِ!.

   “أعطيني لأشربَ”!.. أنا أطلبُ منكِ، أُكلّمُكِ؛ فاسمعيني وأجيبيني!! وَضَعَ المرأةَ – البشريّةَ – على مستواهُ هو!!. الإلهُ المتجسّدُ غيرُ المعروفِ والبشريّةُ السّاقطةُ المختبئةُ في يوميّاتِها وفي محدوديّـتِها!. الهاربةُ منه!…

   وحدثَتِ المفارقةُ العظيمةُ بين الحياةِ والموتِ… بين المياهِ والعطشِ… بين الغسلِ والدّنسِ!!.

   ماءُ الشّربِ والماءُ الحيُّ!. ولا يستكينُ الإلهُ إلاّ إذا تفجّرَتْ أبعادُ المعرفةِ للإلهيّاتِ في الإنسانِ مخلوقِهِ هو!!… وأمرَها…”اطلبي الماءَ الحيَّ منّي”… “ليس عندَكَ ما تستقي بهِ والبئرُ عميقٌ”… “من يشربُ من الماءِ الّذي أنا أعطيهِ فلن يعطشَ إلى الأبد”… وأكثرُ!!…”بل الماءُ الّذي أعطيهِ له يصيرُ فيهِ ينبوعَ ماءٍ ينبعُ إلى حياةٍ أبديّةٍ”.

   وحتّى لا تستكبرَ المرأةُ بِحَدْسِها، بذكائِها الّذي منه، بمعرفتِها، وبحوارٍ فوقَ طاقتِها، جاورَ فيها الإلهُ أبديَّتَهُ مع يوميّاتِها!…

   واجتمعَ، بل التقَى المطلقُ بمحدوديّةِ الإنسانِ!!. وَسِع الإلهُ الحياةَ الأبديّةَ وضيقَ أُفُقِ الإنسانِ بالموت!!.

   “اذهبي وادعي رَجُلَكِ”…”لا رجلَ لي”…”كان لكِ خمسةٌ أما الّذي معكِ الآن فليس رجلَكِ!!. بالصّدقِ قلتِ”…”يا سيّدُ أرى أنّكَ نبيٌّ”!!!.

   أنتم لا تعرفونَ. كلّكم لا تعرفونَ… أنتم تطلبونَ المحسوساتِ وأنا أتيتُ لأتكلّمَ بالرّوحِ إليكم لنقلِكُم إلى الفردوسِ الجديدِ.. إلى “أنا” الإلهِ المتجسّدِ!!.

   وبدأَتْ حكايةُ المحاوَرَةِ والتواري وعدمِ اليقينِ والخوفِ والاستكبارِ، فالكذبِ!!…

   وكانتِ السّامريّةُ تعرفُ أكثرَ!!.”قد علمْتُ أنّ “مسيّا” الّذي يُقالُ له المسيحُ يأتي!!. فمتى جاءَ ذاكَ يخبرُنا بكلِّ شيءٍ… ” أرادَتْ أن تُصْمِتَهُ وهو الرّجلُ بمعرفتِها… بِعِلْمِها… بحدسِها الأنثويِّ… وكانت تنتظرُ… فالإنسانُ الّذي لا يَنْتَظِرُ عملَ، فعلَ وحبَّ الخالقِ!!. يموتُ!!…

   “فقالَ لها يسوعُ: أنا المتكلّمَ معكِ هو”!!!…

   عرّفَها ذاتَه… الرّجلُ إزاءَ المرأةِ!!.. والإلهُ إزاءَ البشريّةِ!!…

   “أنا هو الّذي هو” (خروج 3).

   وتمّتِ الخطبةُ بعدَ التّعارفِ!!. فالالتزامُ، فالفرحُ بالولادةِ، بالحياةِ الجديدةِ، بالعرسِ!!…

   كيف بإمكانِ الإنسانِ استقصاءُ سرِّ وحدةِ الوجودِ واتّحادِ البشريّةِ بخالقِها لتصلَ إلى المدارِ الكونيِّ للإلهِ؟؟ إلى حقيقةِ “الكائنِ” في الكونِ؟! في هذا العمرِ؟!…

   بالصّلاةِ وبالنّعمةِ الإلهيّةِ المتنزّلةِ على الإنسانِ بالسّماعِ، من قربِهِ إلى خالِقِهِ وقبولِ الالتّصاقِ بالجمرةِ الإلهيّةِ المطهّرةِ لكلِّ أدناسِ الرّوحِ، النّفسِ والجسدِ!!…

   بعدَ معرفتِها الإلهِ… تخلَّتِ المرأةُ عن “رجالهِا”… عن عشّاقِ جسدِها!!. عن كذبةِ عيشِها متنقلةً من واقعٍ يتكشّفُ فيه سقوطُها والرّجلَ، والبشريّةَ والكونَ كافّةً!!.

   وهربَتْ… هربَتْ حوّاءُ الجديدةُ بالمعرفةِ الإلهيّةِ… باليقينِ أنّها التقَتْ حبَّ عمرِها، هديّةَ عُرْسِها، الجوهرةَ الثّمينةَ… الإلهَ… الفرحَ الّذي لا ولن يُنْزَعَ منها، وانطلقَتْ مبشّرةً، مخبرةً “ناسَها”… “أهلَها”… “عالمَها”… مُسامِحةً إيّاهُم على نَبْذِها!!.

   وفرِحَتْ… لأنّهم هم عرفوهُ منها وفيها!!. أَدركوا عِلْمَهُ!!. أيقَنوا أنَّ الإلهَ أتاهم متجسِّدًا!!…

   وصارَ الكلُّ… كلُّ شعوبِ الأرضِ، تلاميذَ المعلّمِ بالمرّأةِ السّامريّةِ “بفوتيني”… بالنّور، مبشِّرةً بالحقيقةِ… بالإلهِ الحيِّ!!.

 

آمين.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share