مِنْ خير ما وهبتني إيّاه معموديّتي أن أَرتبط ببني جِلدتي، ولا سيّما منهم إخوتي في الإيمان. فهذا من أعمق ما تقتضيه حياتنا في المسيح. فأنا، مسيحيًّا، لا يمكنني أن أرى الله حقًّا، وأرتبط به فعلاً، إن لم أؤمن به قائمًا في “مجلس المستقيمين وفي الجماعة” (مزمور 111: 1). هذا لا يعني أن أَحصر ارتباطي بِمَن أُشاركهم في إيماني بأوان صلوات كنيستي، بل، إلى هذه المشاركة، أن أمدّه إلى كلّ ما يتعلّق بالتزامي حياتها ونشاطاتها وشهادتها في العالم. فالمسيحيّة لا يحتمل حقّها أن أحيا كما لو أنّني في صحراء. هذا، إن جرى، يعني أنّني لا أفهم أنّني عضو فيها، يعني أنّني لم أَدخلها حقًّا، أنّني أرى نفسي أهمّ من جميع خلق الله.
معنى ذلك، إذا تكلّمنا مسيحيًّا، أنّ الإنسان لا يمكنه أن يتربّى، حقًّا، بعيدًا من حضن جماعته. فإن وجدتَ شخصًا ملتزمًا التزامًا لافتًا، فيجب أن تعتقد أنّ إخوته المعتبَرين، في الجماعة، قد رعَوه، وبذلوا، في سبيل قيامه، عيونهم وماءها الأخّاذ (قابل مع: أعمال الرسل 20: 31). لا، لا يتربّى الإنسان بعيدًا، بل إن التزم إخوته دائمًا (إن كان يحيا معهم)، وإن قصد أن يتّحد بهم (إن كان يرغب في أن يجدّد حياته كلّيًّا). وهذا الحقّ يحثّنا، ملتزمين، على أن نذكر، دائمًا، أنّ لإخوتنا دَيْنًا علينا (فيليمون 19). لا يعني هذا أنّ للالتزام ثمنًا مادّيًّا ينبغي لكلٍّ منّا أن يؤدّيه، بل أن أعي قيمة التعب الذي بُذل من أجلي، لأردّه إلى مَنْ تعبوا عليَّ إن بدوا أنّهم يحتاجون إليه، ولأصرف نفسي، في غير وقت، في خدمة كلّ مَنْ أراه يحتاج إلى خدمة. ففي ذكر الدَيْن، أحفظ نفسي من الخروج على تربيتي، من التعالي على مَنْ كانوا سبب وجودي، من التصرّف كما لو أنّي يتيم، ومن إلغاء الآخرين كما لو أنّ أمور وعيي حدثت لي بالمصادفة.
هذه التذكِرة تأتي في زمانٍ بات الكثيرون بيننا فيه يعتقدون أنّهم قادرون على أن يحيوا بعيدًا من حياة كنيستهم. وهذا شرّ خروج، سواء وعينا حقّ ما نهمله قليلاً أو كثيرًا، أو لم نعِهِ بتاتًا. ويمكننا أن نُلحق بِمَنْ لم يدخلوا حقّ المسيحيّة مَنْ خرجوا على التزامهم بعد إظهارهم “وعيًا لافتًا”. وهل يكون مَنْ خرج على المسيحيّة قد دخلها حقًّا؟! لا أريد أن أظلم، فإنّ الظالم لا يرث ملكوت الله. لكن، ما عذر الذين يأبون أن يعمّقوا التزامهم الكنسيّ، أو عذر الذين هجروا حياة الجماعة؟ لا أعتقد أنّ ثمّة جوابًا أوضح من اعتقادهم أنّهم قادرون على أن يحيوا لله، أينما حلّوا أو نزلوا. البعيدون لا يمكنهم أن يفهموا أنّ المسيحيّة كلّها أن نعبد الله “كتفًا على كتف” (صفنيا 3: 9). المسيحيّة كلّها، أجل كلّها، أن يعرف كلّ مَن انتسب إلى الله في معموديّته أنّه “ابن البيت”، أي عضو في عائلة، غصن في كرمة، ملح، خميرة.
كلّ أخ قريب يعرف، أو يمكنه أن يعرف، أنّ هدف الحياة في المسيح هي قداستنا. ولا أعتقد أنّ جميع البعيدين يجهلون هذا الهدف. وحسبي أنّنا كلّنا ينبغي لنا أن نعرف أنّ القداسة تأبى أن يسعى إليها أيٌّ منّا فرديًّا، أي على أنقاض رفقة الإخوة. إن كنت أعرف، مثلاً، أنّ المسيحيّة تطلب أن أصلّي، فطلبها لا يعني أنّ علاقتي بالله تكمل بكلمات أؤدّيها (أينما كنت: في الكنيسة أو في مخدعي أو على الطريق). فالصلاة قربى لها وجهتان، لا تنفصلان، أفقيّة وعموديّة. وهاتان يحكمهما أن أعرف الله الذي أتوجّه إليه في صلاتي.
مَنْ هو إلهي؟ إن لم أجب: إنّه إله الكنيسة التي أحيا فيها، تسقط كلّ صلاة أؤدّيها مهما حسبتها حارّة! وإن كنت أعرف، أيضًا، أنّها تطلب أن أفهم علمها، فطلبها يعني أنّها تنتظرني، إلى التزامي علمها في حياتي، أن أبلّغ الحقّ إلى كلّ مَن يلاقونني على دروب حياتي، قريبين وبعيدين. دائمًا، في كلّ طلب، ينتصب الإخوة حاضرين أمامي. فالإخوة، في المسيحيّة، أساس على غير مستوى. فأنا، مثلاً أيضًا، لا أستطيع أن أختبر حقّ أيّ فضيلة من دونهم. إن فهمت أنّني مدعوّ إلى التوبة دائمًا وإلى الخدمة وطول الأناة والتواضع والمحبّة وغيرها من الفضائل، فهذه كلّها (وكلٌّ منها) غير ممكنة، واقعيًّا، بعيدًا من شركة الحياة الأخويّة. فمن المستحيل أن أعرف أنّني أحبّ، حقًّا، من دون وجود آخرين. ومن المستحيل أن أتوب توبةً نصوحًا، ولو التزمت الاعتراف أمام أبي الروحيّ بتواتر مستمرّ، إن لم ألتزم حياة جماعتي، وأقبل نصح إخوتي وكلّ قول يبنيني، أيًّا كان قائله. ومن المستحيل أن أعرف إن كنت صبورًا إن لم أخالط أشخاصًا بعضهم مزعج، أو أقدر على أن أخدم أشخاصًا لا أراهم أمامي، أو أن أحسب نفسي ترابًا من دون أقدام تطأني. وهذا كلّه يردّني إلى ما يجب أن يحتلّ كياني كلّه، أي إلى أن تكون حياتي اندماجًا في حياة كنيستي دائمًا.
أنا إنسان معمّد، عبارة لا تعني أنّني نلت من الله بركةً في اليوم الذي اكتسبتُ فيه عضويّتي الكنسيّة، بل أنّ الله أنعم عليَّ بأن أكون ابن بيته. هذه الغربة، التي باتت نهج الكثيرين اليوم، هي خروج على بنوّتنا لله، أسواء فهم المتغرّبون ذلك واعترفوا به، أم لم يفهموا ويعترفوا. يمكنني أن أشعر كم يمكن أن تجرح هذه الكلمات. والله شاهد عليَّ أنّني لا أتقصّد جرح أحد. فكلّ ما أريده، أو يريده الله منّي ومن سواي، أن نفتح كلّنا له كياننا كلّه، ليشفينا من كلّ بُعد وهجر وفرديّة لا معنى لها. فالربّ، الذي تنازل إلى أن يموت عن كلٍّ منّا، إنّما مات، ليجمعنا، ويوحّدنا معًا به وفيه. هذا ما من أمر، في الكون، أيًّا كان هذا الأمر، يوازيه أهمّيّة. هذا ما من أمر آخر يكشف بلاغته. عندما يلتصق بضميري أنّ الجماعة الكنسيّة عائلتي الكبرى (أو عائلتي الوحيدة)، أفهم أنّني، معمّدًا، ابن لله وأخ لكثيرين لم تلدهم أمّي.