فى إحدى المدن كان يعيش مارتن الإسكافى، فى غرفة صغيرة ذو نافذة واحدة تطل على الشارع، و برغم رؤيته لأرجل المارة فقط إلا أنه كان يعرفهم من أحذيتهم التى سبق أن أصلحها لهم… و كان أميناً فى عمله، فقد كان يستعمل خامات جيدة و لا يُطالب يأجر كبير، فأحبه الناس و ازداد ضغط العمل
كانت زوجته و أطفاله قد انتقلوا منذ عدة سنوات، و فى حزنه الشديد كان يعاتب الله كثيراً… إلى أن جاءه أحد رجال الله الأتقياء، فقال له مارتن: “لم يعد لى رغبة فى الحياة، إتى أعيش بلا رجاء”
فرد عليه الرجل: “إنك حزين لأنك تعيش لنفسك فقط… إقرأ فى الأنجيل و أعرف ما هى إرادة الله ” اشترى مارتن كتاباً مقدساً و عزم أن يقرأ فيه و عندما بدأ يقرأ وجد فيه تعزية
جعلته يقرأ فيه كل يوم… و فى إحدى الليالى التى كان يقضيها مارتن فى القراءة، فتح الأنجيل على فصل فى بشارة القديس لوقا الذى دعا فيه الفريسى الرب ليأكل عنده، و دخلت امرأة خاطئة و سكبت طيباً على قدميه و غسلت رجليه بدموعها و قال الرب للفريسى: “دخلت بيتك و ماء لرجلى لم تعط أما هى فقد بلت بالدموع رجلى و مسحتهما بشعر رأسها، بزيت لم تدهن رأسى أما هى فقد غسلت بالطيب قدمىّ..”
تأمل مارتن فى الكلام و قال فى نفسه: “هذا الفريسى يُشبهنى تُرى لو جاء الرب لزيارتى هل سأتصرف مثله؟”
سند رأسه على يديه و راح فى نوم عميق… و فجأة سمع صوتاً، فتنبه من نومه و لكن لم يجد أحداً بل رن صوت فى أذنيه: “مارتن ترقب، فغداً آتى لزيارتك”
استيقظ مارتن قبل شروق الشمس مبكراً كالعادة، و بعد أن صلى أشعل المدفأة و طبخ شوربة ساخنة ثم لبس مريلة و جلس بجانب المدفأة ليعمل. و لم يُنجز فى عمله لأنه كان يفكر فيما حدث ليلة أمس، و نظر من النافذة لعله يرى صاحب الصوت آتياً… فكلما رأى حذاء غريباً تطلع ليرى الوجه.
مر خادم ثم سقا ثم رجل عجوز يدعى اسطفانوس كان ينظف الثلج من أمام نافذة مارتن… دقق النظر فيه ثم عاد يخيط الحذاء الذى فى يده، و حينما نظر مرة أخرى من النافذة وجد اسطفانوس و قد سند يديه على الجروف و قد ظهرت على محياة إمارات الإجهاد الشديد… فنادى عليه، و دعاه للدخول للراحة و الإستدفاء…فرد: “الرب يباركك”. و دخل و هو ينفض الثلج من عليه و يمسح حذاءه، و كاد يسقط فسنده مارتن و قال: “تفضل اجلس و اشرب الشاى”
صب مارتن كوبين، أعطى واحداً لضيفه و أخذ الآخر و سرح بنظره تجاه النافذة، مما أثار فضول اسطفانوس فسأل: “هل تنتظر أحداً؟”
“ليلة أمس كنت أقرأ فى إنجيل لوقا عن زيارة الرب يسوع الفريسى الذى لم يرحب به مثلما فعلت المرأة الخاطئة. فكنت أفكر إذا زارنى يسوع فماذا سأفعل و كيف سأستقبله؟ و بعد أن استغرقت فى النوم سمعت صوتاً يهمس فى أذنى…انتظرنى فسوف آتيك غداً”
تدحرجت دموع اسطفانوس فيما هو يسمع ثم نهض و قال: “أشكرك يا مارتن فقد انعشت روحى وجسدى”
خرج اسطفانوس و عاد مارتن للنظر من النافذة و العمل بلا تركيز…
و رأى هذه المرة سيدة تحمل طفلاً فى حضنها محاولة أن تحميه من الرياح الشديدة، فأسرع مارتن خارجاً و دعاها للخدول، و فيما هى تستدفئ جهز لها بعضا من الخبز و الشوربة الساخنة و قال: “تفضلى كلى يا سيدتى”
و فيما هى تأكل قصت عليه حكايتها قائلة: “أنا زوجة عسكرى بالجيش و هو ذهب فى استدعاء منذ ثمانى أشهر و لم يرجع حتى الآن… و أنا بعت كل شئ، حتى آخر شال عندى رهنته أمس، لأستطيع الحصول على بعض الطعام لى و لأبنى”
أخرج مارتن معطف ثقيل من عنده و قال: “خذى هذا إنه قديم و لكن يصلح لتدفئة الطفل”
أخذته المرأة و انفجرت دموعها داعية له: “الرب يباركك”
ابتسم لها مارتن و حكى لها عن حلمه، فردت: ” ولمَ لا يحدث هذا، فليس شئ عسيراً عند الرب”
ودعها مارتن بعد أن زودها ببعض المال لتسترد شالها الذى رهنته.
عاود مارتن وحدته و عيناه لا تنظران إلى ما يفعل بل هى مُثبتة على النافذة… و رأى امرأة تبيع تفاحاً فى سَبَت وما إن أنزلت السَبَت عن كتفها حتى امتدت يد ولد فقير تخطف تفاحة، إلا إنها أمسكت به تضربه و تهدده باستدعاء الشرطة.
جرى مارتن نحو السيدة و الولد و قال: “أرجوك يا أماه، اتركى الولد لأجل خاطر المسيح”
أما هى فقالت: “و لكنها سرقة، لابد أن يؤدب الولد”
فرد مارتن: “يا أماه، إن كان هذا الولد لابد أن يعاقب من أجل سرقة تفاحة، فكم يكون عقابنا نحن الذين فعلنا خطايا جسيمة هذا مقدارها”
فأجابت بخجل: “عندك حق”
أخذ مارتن تفاحة من السبت و أعطاها للولد و قال للسيدة إنى سأدفع لك ثمن هذه التفاحة.
و فى النهاية انحنت المرأة لتلتقط السبت فقال لها الولد الفقير: “دعينى أحمله عنك يا أماه، فأنا ذاهب فى طريقك “
دخل مارتن منزله و أخذ يعمل حتى كلت عيناه… فوضع شغله جانباً و أضاء المصباح و أخذ الإنجيل على غير العلامة التى وضعها بالأمس، و سمع صوتاً يقول: “أتعرفنى يا مارتن؟”
“من أنت؟”
“أنا هو”
و فى ركن الحجرة ظهرت هيئة اسطفانوس، ثم بدت له المرأة و طفلها، ثم بائعة التفاح و الطفل بجانبها ممسكا بتفاحة… ثم اختفوا
فرح مارتن جداً و بدأ يقرأ فى الأنجيل فوجد الآيات التالية:
“كنت جوعاناً فأطعمتمونى، عطشاناً فسقيتمونى، غريباً فآويتمونى…”
ثم قرأ أيضاً:
“كل ما فعلتم بأحد هؤلاء الصغار فبى قد فعلتم”
حينئذ فهم مارتن أن المخلص زاره و أنه استقبله كما ينبغى.