رأيٌ في العقل ومَقامهِ في الكنيسة

mjoa Thursday May 29, 2014 81

رأيٌ في العقل ومَقامهِ في الكنيسة

الكرمة :  الأحد 25 ايّار 2014
العدد 21
 
تَرِدُ في ما نُنشِدُهُ لوالدةِ الإلهِ عِباراتٌ كَ: “أسرارُكِ كلُّها يا والدةَ الإله تفوقُ كلَّ عقل وتَسمُو على كلّ مجد..”، و: “إفرحي أيّتها الملكة فخرُ العذارى والأُمّهات، لأنّ كلّ عقل ينذهل مِن فَهمِ حال ولادتك”… مِمّا يَدُلُّ على أنّ المسائل الإيمانيّة عندنا تتخطّى العقلَ ومناهجَه وأدواتِه، بمعنى أنّ الحاكميّة الأخيرة فيها ليست للعقل. وإلاَّ، فبماذا نُفسّر، أو كيف نفهم، أنّ بتولاً تَلِدُ بلا زرعِ رجلٍ؟ وَأيُّ عقلٍ يستطيع أن يُقارِبَ عقيدة (سرَّ) الثّالوث؟ أو أن يَفهمَ إقامة لعازر ذي الأربعة الأيّام من القبر، وسائر المعجزات التي اجترحها السيّد وبعض رُسله؟ كلُّ هذا لِنقولَ إنّ تعليم الكنيسة نفسها ليس نتاج العقل المحض، بِقَدْر ما هو نتاج الإيمان، “الّذي  به نفهم أنّ العالَمِين أُتقنت بكلمة الله، حتّى لم يتكوّن ما يُرى ممّا هو ظاهر” (عب 11/3).

مع ذلك، ولَئِن تَخَطَّتِ المسائل الإيمانيّة العقل، إلاّ أنّها لا تُلغيه ولا تُعطّله. لا بُدَّ من الاِعتراف بمحدوديّة العقل، ولكن لا يجوزُ تعطيلُهُ في أيِّ حالٍ منَ الأحوال، لأنّ في هذا جحوداً بنعمة الله وإنكاراً لِعَطيّةٍ عظيمةٍ من عطاياه. فَمَنْ يُعطِّلُ عقلَه مَثَلُهُ كَمَثَلِ العبد الذي طمر الوزنة.

في حياة الكنيسة نفسها وتعليمها- مع أنّها ليست نتاج العقل، كما أسلَفنا- لا بدّ لنا من العقل. لا بدّ لنا منه لنميّز بين ما يَحِلّ لنا وما لا يحِلّ، بين ما يوافقنا وما لا يوافق، عملاً بوصيّة الرسول: “امتحنوا كلّ شيء. تَمَسَّكُوا بالحَسَن” (1 تسا 5/21). لا بُدّ لنا منه لنميّز، في التعليم بين ما هو من استقامة الرأي وما ليس منها، فلا تقتنصَنا الهرطقات. إنّ عقل بولس، المُشبَع من فلسفات عصره وتقليدات آبائه (اليهود)، هو الذي مَكَّنه من إفحام الفرّيسيّين وتحذير تلاميذه من أن يَسلبَهُم أحدٌ بالفلسفة: “إيّاكم وأن يسلبَكم أحدٌ بالفسلفة، بذلك الغرور الباطل حسَب تقليد الناس وأركان العالم وليس حسب المسيح” (كول 2/8). حتّى في بعض الممارسات المصنَّفةِ تقوِيّةً، لا بدّ لنا من العقل ليرشدنا إلى ما هو سليمٌ منها، فلا نقع في انحرافات إيمانيّة قد تنطوي عليها وتقودنا إليها- بكثير من حُسنِ النيّة أحياناً- هذه الممارسة أو تلك، والأمثلة هنا عديدة. ونحن، عندما ندرس، نصلّي إلى الله من أجل “أن يُرسل لنا روح الحكمة والفهم، لينير عقولنا في الوقوف على وصاياه الإلهيّة…”. ولا ننسى أنّ الصِّيغ والتحديدات العقَديّة لَزِمَها العقلُ حتّى أبصرتِ النّور. أخيراً لا آخراً، وفوق هذه كلّها، بل وقبلها كلّها، لا يفوتُنا أنّ ربّنا نفسه، له المجد، لم يَزدَرِ توما لمّا شكّ- والشّكّ حركةٌ من حركات العقل- لكنّه احترم عقله، وبكثير من التّأنيّ قاده إلى الإيمان على النحو الذي نعرف.

فماذا لو تَعطّل العقل؟ ما العاقبة؟ العاقبة انحرافات لا حدّ لها ولو مُمَوَّهةً بطلاءٍ من الإيمان والتقوى. العاقبة تَطَرّف وتَعَنُّت لا تُحمَدُ لُهما عُقبى. العاقبة غوغاء وانفعال وغرائز مُتفلّتة لا ضابِطَ لها. العاقبة تصرّفات وتصريحاتٌ وشعاراتٌ غريبة كُلّيّاً عن فكر المسيح. العاقبة تمرّدٌ وعصيان غريبان عن روح الجماعة وعن روح الطاعة الإنجيليّة. العاقبة تَحَزُّبٌ على غرارِ ما في العالم، وانقسامٌ على غرار ما في العالم، وتالياً ضَربٌ لوحدة الكنيسة وتنكُّرٌ لوصيّة بولس إذ قال مُحذِّراً من مَغَبّةِ التحزّب: “ألعلَّ المسيحَ قد تَجَزَّأ…؟ (1 كور 1/13).

فِيمَ يكمن الحلّ؟ يكمن الحلّ في عقل ينبغي رفضُه قطعاً وفي آخرَ ينبغي التّمسُّك به قطعاً. أمّا الذي ينبغي رفضه فهو العقل المستَكبر، المكتفي بنفسه، الذي يَعُدّ ذاته مرجعاً لذاته. وأمّا الذي ينبغي التّمسُّك به فعقلٌ واعٍ، حاضِر، وَقّاد، لا يُهَمّش ذاته، ولكن، بآنٍ معًا، متواضع، يُدرك انّ الحاكميَّةُ النهائيّة ليست دوماً له، عارِفٌ محدوديّته ومُنكسِرٌ أمام لا محدوديّة خالقه، مُسَبِّحٌ، مُبارِكُ ومُتَأَهّبٌ، على الدّوام، لِتَقَبُّل إشراقات النعمة الإلهيّة عليه.

بهذا العقل تتألّق الكنيسة ويفرح قلب الله. هذا هو العقل الذي يَحفظنا في استقامة الرّأي واستقامة التَّمجيد.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share