يؤكّد الكتاب المقدس أن الله وحده هو القدّوس، لكنه يدعو كل إنسان إلى بلوغ القداسة في حياته: “بل على مثال القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين في تصرّفكم كلّه، فإنه كُتب كونوا قديسين فإني أنا قدوس” (رسالة القديس بطرس الأولى 1، 15-16). وبطرس نفسه يذهب أبعد من ذلك حين يدعو المؤمنين إلى أن “يصيروا شركاء في الطبيعة الإلهية” (رسالة بطرس الثانية 1، 4).
مشاركة الإنسان في الطبيعة الإلهية لم تكن متاحة قبل أن يتجسّد كلمة الله ويصبح إنساناً، فبفضل يسوع المسيح الإله المتأنس صار بإمكان الإنسان، وفق التراث الآبائي، أن يصبح بالنعمة إلهاً كما صار الكلمة الإله الأزلي بالحقيقة إنساناً.
إذا نُسبت القداسة إلى البشر فهذا لا يعني أنهم كانوا معصومين عن الخطيئة أو منزّهين عن الخطأ، بل هي تُنسب إليهم لأنهم قد أدركوا أنهم خطأة فسعوا بكل قدرتهم وقوتهم إلى التوبة. القديس ليس سوى ذاك الذي أقرّ بخطاياه وقرّر الابتعاد عنها وسلك طريق التوبة وتقدّم فيها. لذلك توجّه الرسول بولس في رسائله إلى عموم المؤمنين الأحياء مسمّياً إيّاهم بالقديسين على سبيل الرجاء. القداسة هي الجهاد اليومي الدائم، على رغم السقطات الكثيرة، في سبيل عيش الخيرات الآتية في عالمنا الحاضر.
من هنا تدرك الكنيسة أن القداسة ليست أمراً استثنائياً أو طارئاً، وليست حدثاً يفوق الطبيعة، بل هي جزء من رسالتها ودعوتها في العالم. والقديسون هم الدليل الساطع على قدرة كل إنسان، مهما ارتكب من خطايا وآثام، أن يصبح قديساً بمؤازرة نعمة الله. فسلسلة القديسين تضمّ الزناة واللصوص والقتلة وسواهم من مرتكبي الكبائر، غير أن توبتهم كانت عظيمة إلى حدّ محو كل ما اقترفوه آنفاً. القديسون، إذاً، هم نماذج حيّة تجعل المؤمنين لا ييأسون من رحمة الله، وبأنهم على مثال مَن سبقوهم قادرون هم أيضاً أن يصبحوا قديسين.
أما الانتفاع من سير القديسين فيكون باتخاذهم قدوة للمجاهدين اليوم في سبيل بلوغ ما بلغه هؤلاء.
فإذا كانت القداسة أمراً غير طارئ على الكنيسة، فلماذا يتعامل الناس مع إعلان قداسة أحدهم وكأنه حدث استثنائي؟ ولماذا بتنا نستغرب أن يكون ثمة قديسون في عالمنا المعاصر؟ لماذا أمست القداسة حكراً على بعض مَن تعلنهم الكنيسة قديسين، بينما كان لفظ “القديسين” يطلَق على المنتمين إلى الكنيسة كافة؟
في الأحد الأول بعد عيد العنصرة، عيد حلول الروح القدس على جماعة المؤمنين، تحيي الكنيسة الأرثوذكسية عيد جميع القديسين، وذلك للدلالة على فاعلية عمل الروح القدس، روح القداسة، في المؤمنين. ثمرة العنصرة هي القداسة التي يهبها الروح للسالكين في سبله.
حسنٌ أن يحتفي المؤمنون بالقديسين، غير أن الأحسن هو أن يكون إعلان القداسة حافزاً لكل الشعب كي يغدو هو أيضاً شعباً من القديسين الأحياء. فإن يصل واحد من ملايين الناس إلى القداسة إنما هي مناسبة تستدعي التفكير بحالة الملايين من غير القديسين، أكثر مما تستدعي الاعتزاز بالواحد القدّيس فحسب. كيف يمكن أن يقتنع المؤمنون بأن القداسة أمر يعنيهم هم أيضاً؟
جريدة النهار – 11 حزيران 2014