في الكنيسة الأرثوذكسية نقيم غدًا أحد جميع القديسين جاعلين اياه الأحد التالي للعنصرة لنقول ان القداسة عمل الروح الإلهي وليست صنع البشر. جعلها الله فينا حصته حتى لا نفتخر ليكون لله فيها الفضل. المسيحية لا تعتز بالعقل اللاهوتي فقط وما اعظمه. تفتخر بالقداسة، لأن العقل الكثير منه من الإنسان واما القداسة فهي من الله. فإذا سمينا واحدا منا قديسا فليس لنعتز بما أنجز في بشريته ولكن بما وهبه الله.
نحن لا نضع في القداسة مفهوم البطولة فليس عند الله بطل. كل القداسة سكبها الرب بفضله في الإنسان ولا نعرف سر نزولها فيه اذ يحرم علينا ان نزن مقاديرها في ذا وذاك. الكنيسة الأرثوذكسية لا تربط القداسة بأعجوبة ولكن بإعجاب المؤمنين بطهارة واحد منهم. ليس صحيحًا ان القديسين أتوا كلهم بمعجزات. المعجز هو القداسة ذاتها. اذ تعني ان إنسانا ما رأى في الكون وفي ذاته الا الله. عندما تنعت الكنيسة الأرثوذكسية أحد قديسيها بأنه صانع عجائب لا تكون قد افترضت ان كل قديس يأتي بمعجزة. المعجزة هي القداسة نفسها.
ما يلفتني في الأبرار انهم لا يقيمون قيمة الا لبر الله. لا يرون أنفسهم شيئا اذ تروضوا على ان رؤيتهم لنفسهم موت لها. فقط في نكرانك لذاتك تصير شيئا في عيني الله.
سر ذلك انك اذا رأيت شيئا إلى جانب الله تبطل الله. قد يقيم المسيحي الفهيم قيمة للعقل ولكنه لا يراه شيئا ازاء القداسة. العقل يأتيك من ذاته، من قوته. القداسة وحدها تأتيك من الله وأنت جاحد ان أضفت شيئا الى الله. أنت جاحد ان أضفت شيئا الى القداسة لأنها وحدها من الله والباقي جهد. تعلم ان كنت ذكيًا أو مثقفًا كبيرًا انك لا تزيد درهما على القداسة فيك لأن كل شيء ما عداها من صنع البشر.
لماذا جعلنا لنا افتخارا بالقديسين مجتمعين؟ لماذا أردنا ان نعيد لهم معا؟ الجواب ان قداستهم واحد من حيث المنشئ وهو المسيح ولأننا لا نفرق بينهم اذ نلتمس أثر السيد في كل واحد منهم وفيهم مجتمعين. لذلك لا نقارن بينهم ولا نعتز بواحد تفضيلا اذ نراهم جميعا ناشئين من الواحد.
من جمالات الكنيسة انها تضم القديس إلى القديس بحيث تعتز بهذا وذاك وترى الحسنات وتكبر بفضيلة هذا وفضيلة ذاك. لعل من أهم ما عند المسيحي انه يؤثر البر على الفكر وينجذب إلى القديسين بسبب قداستهم لا بسبب ذكائهم اللاهوتي. ذكاؤهم يفرح المؤمنين الأذكياء. قداستهم تحرك الجميع.
البار عندنا لا يهتز للموهوبين عقليا بقدر ما يهتز لمن يعتبرهم أعظم في البر. المسيحي الموهوب مقدارا من الذكاء لا يقيم له وزنا. الوزن عنده لكثافة القداسة. القديسون اللاهوتيون لهم وزنهم عندنا ولكن بسبب قداستهم. نشكر لله عقولهم التي أنارتنا ولكنا لا نؤثرهم على من كان في القداسة بسيطا.
ما يهم الكنيسة ليس ان تقارن بين هذا القديس وذاك. ما يهمها ان نسعى جميعا إلى القداسة. من وهب نشاط فكر أو عمل فهو رفيقنا على دروب الرب ولكن الأقرب إلى قلوبنا من حقق طهارة أو طلبها وجاهد نفسه ليزداد محبة للمسيح.
من بركات هذا الأحد ان يجعلنا حساسين إلى ان القداسة تجمع ناسا كثيرين من مختلف صور الجهد. من أهمية هذا العيد انه يزيد فهمنا على ان القداسة مهما اختلفت صورها واحدة في جميع الذين انسكبت فيهم.
ما يلفتني ان ما يهم المسيحي أولا ليس الفكر ولا الإنجاز العملي بل القداسة ذاتها. لك ان تتسلم أعظم الوظائف في الكنيسة ان لم تكن ساعيا إلى القداسة لست بشيء. لك ان تحقق في المسيحية أشياء عظيمة ولكن ان لم تسع إلى البر الذي في المسيح لست بشيء. ان آثرت على عشق المسيح وظيفة عليا أو مجدا من هذا العالم فلست بشيء. ان لم تتيقن ان المسيح حياتك وانك لا تزيد عليه شيئا لست بشيء. ان أحببت يسوع حبا كثيرا ولم تنل شيئا آخر من هذا الوجود تكون قد أدركت غاية الحياة. لا تبدد أوقاتك وجهودك في شيء آخر. اذهب فقيرا إليه يغنيك عن كل شيء آخر.
ليس في هذا العالم ما لا يستغنى عنه. ان لازمت فقرك إلى المسيح لا تحتاج إلى شيء آخر. ليس من خسارة الا خسارة وجهه. لازم عينيه يلازم هو عينيك.
14 حزيران 2014
جريدة النهار