المبذولون في الحقّ!
“يأتي وقت يجنّ فيه النّاس. فإذا ما التقوا إنسانًا عاقلاً قالوا له: أنت مجنون”!
(القدّيس أنطونيوس الكبير)
قال الرّبّ يسوع الحقّ فصُلب! الثّمر أتى لا من الحقّ مباشرة بل من صليب الحقّ، ما يعني أنّ الحقّ، في هذا الدّهر، بعامّة، مرفوض، وتاليًا مصلوب. الحقّ، كبديهيّة، وارد، فقط، عند مَن مسَّهم روح الله. هؤلاء وحدهم يقولونه ويسمعونه. ولا يمسّ الرّوحُ قلبًا، أو قل لا يتحرّك فيه، إلاّ إذا طلب الإنسانُ الحقَّ للحقّ! طالما للإنسان مصلحة خاصّة فلا يمكن للحقّ أن يكون له مكان فيه! يأتي مزيّفًا! الحقّ، أصلاً، هو الله! وما نتعاطاه منه نتعاطى الله فيه! لذا لا إشراك في الحقّ. الإشراك في الحقّ إشراك في الله. نُفرغ أنفسنا من أنانيّاتنا، أوّلاً، ليأتي الحقّ. وإذ يأتي يأتي من ذاته! ويأتي لا كما من فراغ بل كمن إفراغ! الفراغ عدم. لذا الفراغ،
بشريًّا، هو أن يمتلئ الإنسان من نفسه، لأنّه، في ذاته، من التّراب وإلى التّراب يعود! أمّا الإفراغ فعمل إرادةٍ تتوخّى الخروج من الفراغ العدميّ التماسَ حالٍ هو الله عليها لأنّه الحقّ والحبّ والحياة. الله، بالحقّ، مُفرَغ من الأنانية، تمامًا! هذه صفة الإله/ الحقّ! على هذا، تُفرغ ذاتك من ذاتيّتك فتستدعي الحقّ، فيأتيك عَدْوًا! لا تتوقّع، إذًا، أن تتعاطى الحقّ فيَقبلوك! توقَّع أن يرفضوك، أن يقاوموك، أن يضطهدوك! يسمِّرونك على الصّليب لألف سبب! يقولون عليك ما لست عليه، ويقوِّلونك ما لم تقلْه ولا خطر ببالك! تمسي لهم عدوًّا لأنّك تحبّهم في الحقّ! يريدونك أن تحابيهم! الحقّ الّذي له تشهد يعتبرونه باطلاً! يتّهمونك بما ليس فيك لأنّهم لا يقبلون شهادتك! يُسقطون عليك ما هو فيهم! غرضيّون ويقولون فيك الغرَضيّة! أنانيّون ويقولون فيك الأنانية! كاذبون ويقولون فيك الكذب! يحبّون الباطل ويقولون فيك الباطل! لا يطيقونك ولا ما تقول وتفعل! أنت لهم بعلزبول! الحقّ يُحرِق مَن ليس في الحقّ! لستَ مطالبًا، من فوق، بأن تغيِّر شيئًا! فقط أن تغيِّر نفسك على مثال مسيحك! المهمّ ألا تنزل عن صليب الحقّ كائنًا ما كان السّبب! يُنزلونك،
أنت لا تنزل، بعدما تكون جوارحك قد صرخت: في يديك أستودع روحي، وتُسلم الرّوح! الصّليب وحده يُخْصِب وبعد ذلك يأتي التّغيير! إن تَمُتْ حبّة الحنطة تأتِ بثمر كثير! تموت في الحقّ ولا يتغيّر الشّامتون والشتّامون والمفترون والسّاخرون! فقط، إثر موتك تدبّ الحياة في النّفوس القابلة للحقّ والحياة! نحن لا نحيي أحدًا بحياتنا، في أنفسنا، في هذا الدّهر، بل بموتنا عن ذواتنا في المسيح! الله، في القديم، ما كان يُرى مقبلاً بل مدْبِرًا! كان يُرى من الخلْف! هكذا الّذين يذيعون بحقِّه! لا يُرَى اللهُ فيهم، ممّن لهم عيون، إلاّ وهُم مُدبرون! طالما هم، وسط إخوتهم، فلا صورة لهم، في عيونهم، ولا جمال! ويلٌ لكم إذا قال جميع النّاس فيكم حسنًا! محتقَرون، مخذولون من النّاس، رجال (ونساء) أوجاع، لا يُعتَدُّ بهم! المكرَّمون، المعظَّمون، في هذا الدّهر،
قلّما يقيم الحقّ فيهم! فتِّشوا عمّن يَرذل نفسه ويرذله النّاس تجدوا الحقّ! الطّفولة الإلهيّة سكنى المغارة وعِشرة مذود البهائم! الحجر الّذي رذله البنّاؤون هو صار رأس الزّاوية! سكبَ نفسه للموت! أحُصي مع أثمة! ما رأينا في قدِّيسي الله سوى رقيقي
الأبدان و/أو المنبوذين و/أو المضطَهَدين و/أو المحارَبين… ما قالوه في حياتهم كان عرضة لكلّ شتيمة ومناقضة وتسخيف! فقط، بعد موتهم بحث العطاش عن المياه الجوفيّة في سيرتهم وأفعالهم وأقوالهم! فقط، بعد موتهم، تبرّك اللاّحقون برفاتهم ومواقعهم! من قِبل الرّبّ كان هذا وهو عجيب في أعيننا! لا يُكْرِم العليّ أخصّاءه، بعامّة، بالغنى بل بالفقر! ولا يحفظهم بقوّة الجسد بل بضعفه! ولا يظلِّل عليهم برضوانه إلاّ بالمهانة! محبّةُ العالم عداوة لله! يقيهم التّجارب المرّة بالإعراض والآلام، حتّى
ليقال إنّه يُسَرّ بأن يسحقهم بالحزن، كما لو كانت ضيقات العمر لتصون حياته فيهم بمثابة حصون وقلاع!
مَن لا يدركون يَحسبون أنّه لا فرح في المسيح! لكنّه كلّه فَرَح! فلأنّ فَرَحَ العالم حُزنٌ عند ربّك، جعل حزنَ هذا العالم موطنًا للفرح الّذي من لدنه! على هذا، جهّل حكمة النّاس وحطّ رفعة هذا الدّهر وأكبرَ غير المعتبَرين! بكلام بولس الرّسول، اختار الله أدنياء العالم والمزدَرى وغير الموجود ليُبطل الموجود ( 1 كورنثوس !( 1 هذه حكمة الله حتّى لا يفتخر أحدٌ بنفسه أو بشيء، بل مَن افتخر فليفتخر بربّه! أعداء الحقّ ثلاثة: المال والسّلطة واللّذّة! إن ظنّ أحدٌ أنّه سهلٌ تعاطي هذه الثّلاثة كان غبيًّا! ليس أنّ المال وما إليه فاسد، لكنّه تجربة ولا أقسى! غير المتمرِّس في الفقر يبتلعه وحش المال بيسرٍ! وغير المتمرِّس في الاتّضاع والحبّ لا يصمد بإزاء شيطان السّلطة! وغير المتمرِّس في عفّة القلب لا طاقة له على لجم عنف اللّذّة! في المال، تبدأ وهاجسك
مساعدة الفقير، وتنتهي وواقعك بناء “المؤسّسة”، باسم الله، لمجد نفسك!
في السّلطة، تبدأ وهاجسك غسل أقدام النّاس لتتبرّك، وتنتهي وواقعك أن يغسل النّاس قدميك ليتبرّكوا! في اللّذّة، تبدأ وهاجسك تعزية المتألّمين، وتنتهي متبلِّدًا في إمتاعك، لائذًا بموقعك لئلاّ يطالك أحد! أوّل الشّرود وخَزُ الشّعور بالضّعف، وآخره انعدام الحسّ والقحة! هكذا تنطلق غيورًا على الحقّ صونًا لصورة ربّك، إلى أن تسقط في مهاوي النّفاق صونًا لصورة النّاس عنك! الكنيسة موطن الأبرار ومعقل الأشرار بامتياز! لأولئك ملاذ التّائبين، ولهؤلاء فردوس المستهترين! في الكنيسة يعي المتّضع
نفسه حقيرًا ويحسب المستكبر نفسه إلهًا! ألوهيّة المتّضع تأتي من تحقير نفسه وشيطنة المستكبر تأتي من تعظيم ذاته! على هذا، مَن طلب الحقّ أعدّ نفسه للهوان وما استبعد الظّلم وأتى إلى الغربة. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضًا. لا تأتي تعزية السّالك في الحقّ من النّاس. ربّما من واحد هنا أو من واحد هناك.
تعزية السّالك في الحقّ تأتي من الحقّ عينه، أي من الله. كلّما أمعن أحد في طلب الحقّ وسلك في التّضحية من أجل الحقّ، كلّما عظمت تعزياته، حتّى ليصير، من جهة النّاس، رجل أوجاع، ومن جهة الله، في سلام وفرح فردوسيَّين!
لا حقّ تقتنيه وتشهد له إلاّ إذا كنت مستعدًّا لأن تصغي بجوارحك، للصّغير كما للكبير! معرفتك للحقّ لا تأتيك من المركز الّذي تحتلّ بل من تواضعك في التقاط التماعات روح الحقّ من الجميع! غناك يزداد كلّما ضخّ ربّك محبَّته فيك لفقرك إليه! هيّء نفسك، كلّ يوم، للرّحيل إلىوجهه! أعدّ العدّة للسّفر! أعط ما لديك! ابذل نفسك! لا تترك لنفسك شيئًا، لأنّ ما تأخذه معك هو ما تكون قد أعطيتَه! ليس لابن الإنسان مكان يسند إليه رأسه! تولّ إخوتك يتولّك مَن آخاك! بالكيل الّذي به تكيلون يُكال لكم! أفرغ نفسك كلّ يوم وخذ صورة عبد ليملأك ربّك ويعطيك صورة إله! ليس لك ههنا بيت باق! اصنع لك أصدقاء بمال الظّلم!
إخوتك الموجوعون مطلاّتك على الملكوت! أُعطيتَ جسدًا لا لتستهلكه، كما لو كان حقّك، بل لتبدِّده في خدمة المساكين! ساعتذاك يتحقّق فيك القول المزموريّ: بدّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد! لا يعطي المرء من القلب بل القلبَ لأنّه مدعو، في نهاية المطاف، لا لأن يحبّ بل لأن يصير محبّة! لازم الحقّ حتّى الجنون ولو اتّهموك باطلاً بالجنون وهم الكاذبون!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان