شتّان ما بين “أبي بكر” و”أبي بكر”

الأب جورج مسّوح Wednesday July 2, 2014 146

مع سيطرة الميليشيّات المسلّحة التي تتّخذ من الدين ستارًا تتلّطى خلفه على مناطق شاسعة من بلاد الشام، ينتاب الناس الشعور بالقلق الشديد على أنفسهم وعلى مستقبلهم. وهذه الميليشيّات التي تجمع تحت رايتها ما لا يمكن جمعه وفق علم المنطق السليم تتوسّل المذهبيّة وحدها قاسمًا مشتركًا. فهي مزيج من تناقضات فكريّة واجتماعيّة وإيديولوجيّة تحرّكها العصبيّة المذهبيّة في سبيل صدّ مشروع مذهبيّ آخر.
تبلغ هذه العصبيّة ذروتها مع مبايعة تنظيم “داعش” قائدها خليفةً على المسلمين وعلى ديارهم. غير أنّ معظم المسلمين يرفضون هذا الأمر الواقع رفضًا قاطعًا. كما أنّ هذا الإعلان يخالف القاعدة الفقهيّة التي تقول إنّ المبايعة ينبغي أن تصدر عن أهل الحلّ والعقد، وأولي الأمر من المسلمين، وهذا ما يفتقد إليه “الخليفة” المنصّب ذاته.


لا ريب في أنّ إعادة نظام “الخلافة الإسلاميّة” حلم يراود الكثيرين من المسلمين الناشطين الذين ينتمون إلى تيّارات متعدّدة من الإسلام المعاصر، ولا فرق هنا بين المتشدّدين والوسطيّين إلاّ بالوسائل اللازمة، عنفيّة لدى الأوّلين أو غير عنفيّة لدى الآخرين، لتحقيق هذا الحلم.
جماعة “الإخوان المسلمين” ليست الجماعة الإسلاميّة الوحيدة التي تؤمن بضرورة عودة الخلافة والسعي الجدّيّ في سبيل تحقيق ذلك في أيّ ساعة تتوفّر فيها شروط هذه العودة المنشودة. فثمّة جماعات وأحزاب أخرى لا تخفي هذا الأمر، بل تناضل من أجله جهارًا وبكلّ ما أوتيت من قوّة وتصميم. وليس ثمّة فقيه واحد من المراجع الكبرى في الإسلام نفى أو أنكر أن تكون الخلافة قد ولّت إلى غير رجعة لحساب دولة المواطنة. وكلّنا نعلم مصير علي عبد الرازق عندما تجرّأ في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” (1925) على القول بعدم ضرورة الخلافة، فحوكم وطُرد من الأزهر.
تفيدنا عبر التاريخ القديم أنّ الإمبراطوريّات الكبرى كانت تحضن الأقلّيّات العرقيّة والدينيّة وتصون بقاءها. وقد احترمت الخلافة الإسلاميّة هذا الأمر، وشرّعت وجود غير المسلمين، وبخاصّة أهل الكتاب من يهود ومسيحيّين وصابئة، في إطار ما سمّي بنظام “أهل الذمّة”. وإنّنا لنظلم الخلافة إذا أهملنا الأخذ في الاعتبار السياق التاريخيّ، عندما نعتبر نظام “أهل الذمّة” غير منصف. طبعًا، مع تبدّل الأحوال وتقدّمها في عصرنا الحديث، نرفض رفضًا باتًّا هذا النظام، ونسعى إلى المواطنة الكاملة والمساواة التامّة ما بين المسلمين وغير المسلمين.
في الواقع، حافظت الخلافة الإسلاميّة على التنوّع الدينيّ، وبخاصّة حين كانت في أوج قوّتها وانتشارها. أمّا غير المسلمين فتفاقمت معاناتهم مع انحطاط دولة الخلافة في العصر العبّاسيّ الثاني وبلغت ذروتها مع حكم المماليك والعثمانيّين. فمَن كان يظنّ أنّ العراق، الذي شهد في أوج الخلافة العبّاسيّة ازدهارًا مسيحيًّا لا يضاهى، وسوريا، التي يصحّ فيها القول ذاته في ظلّ الدولة الأمويّة، سيصبح فيهما الوجود المسيحيّ، ووجود الأقلّيّات الأخرى، في خطر داهم بسبب الخلافة الداعشيّة؟
النضال ضدّ الأنظمة الديكتاتوريّة لا يكون بالسعي إلى إقامة نظام لا يقلّ تخلّفًا عنها، وإن اتّخذ لقبًا شريفًا لدى عموم المسلمين. فالخلافة الداعشيّة خلافة منحرفة لا تمتّ بأيّ صلة إلى الإسلام الذي عهدناه في بلادنا. ثمّ، شتّان ما بين “أبي بكر البغداديّ”، أوّل الخلفاء الداعشيّين، و”أبي بكر الصدّيق”، أوّل الخلفاء الراشدين.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 2 تموز 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share