من الإذعان ما قَتل!
“لا يمكنهم أن يطلبوا منّا أن نكون أتباعهم لمجرّد وراثتهم الخلافة الرّسوليّة. يجب أن نتّبع الخير ونبتعد عن خلفاء الرّسل الأشرار.”
القدّيس إيرينيوس الليّونيّ
“أتحبّني يا بطرس؟ إرعَ خرافي…”. هذا قول السّيّد لبطرس ثلاثًا. الفكرة أنّ بطرس يكفِّر عن نكرانه للرّبّ، ثلاث مرّات، بحبّه له، أي برعاية أغنامه! بكاؤه، مرًّا، ندمٌ وتوبة، والله يقبل التّائبين؛ أمّا عدم رعاية
خرافِه فجحودٌ ونكرانٌ له يقعان تحت الويل! ويل لمَن أعثر أحد هؤلاء الصّغار! وويل لمَن يرعون أنفسهم ولا يرعون الغنم! خراف الكرسيّ الأورشليميّ ليس مَن يرعاها! لماذا؟ لأنّها من العرب! كلّ نهضة، هناك، تعلو على مستوى الفقر والجهل الرّوحيَّين، ممنوعة! يُنظر إليها شذرًا! لهم، فقط، أن يتحرّكوا بين البؤس والجهل، بين الأمّيّة الرّوحيّة المطبقة والطّقوس! هذا يطمئن أكثر! لا نصيب لهم في أكثر من الفتات! مشبوهون أبدًا! مسيَّبون، مهمَّشون! متّهمون بأنّهم قد ينقلبون على الكرسيّ الأورشليميّ! بين مطرقة الاحتلال العسكريّ وسندان الاحتلال “الكنسيّ”، تجري عمليّة تهميشهم وتعطيل قدراتهم، وخنق توثّباتهم، واستعبادهم في كنيستهم، واستبعادهم في كلّ قرار ذي شأن، سواء في أرضهم، أم إلى الخارج!
جاءنا أحد أبناء الإيمان من عمّان لقضاء فترة خلوة بيننا. نقل إلينا أخبار فصل جديد من فصول مأساة كنيسته “المقهورة” وخراف المسيح “المرذولة” فيها! بعض الإكليروس العربيّ، غيرةً على بيت الله، يعمل على نهضة الأرثوذكس العرب! شأن طبيعيّ! في الشّمال الأردنيّ بعض انتعاش ظهر، والنّاس فرحون بعودة الحياة إلى الكنيسة فيهم! وثمّة دير في دبّين، على اسم ينبوع الحياة، قريب من عمّان، (حوالي 75 كلم إلى الشّمال)، ظهر، بولادة قيصريّة، ربّما لأنّه للإناث! النّاس عطاش إلى ينبوع الرّوح، جوعى إلى كلمة الحياة. ما إن ظهر مَن يسكب للأرثوذكس العرب بعض ماء زلال لحياة أبديّة، ويكسر لهم خبزًا سماويًّا، حتّى تحرّكت آلة “الدّخلاء” المتسلِّطين على الكرسيّ الأورشليميّ كما لتضع حدًّا لخطر النّهضة البادية في الأفق واستبعاد محرّكيها وإطفاء جذوة الرّوح فيها! هكذا جرى ويجري استبعاد المسؤولين عمّا يعتبر حياكةً ل”مؤامرة” النّهضة المريبة(!)، واستُعيض عنهم بمَن يؤمّن، عمليًّا، تصحير الكنيسة بين الأرثوذكس العرب قدر الإمكان، هناك، وحفظ المؤشّر دون مستوى النّهضة!
مظاهراتٌ جرت احتجاجًا على تصرّفات مسؤولي الكرسيّ الأورشليميّ، أمام المواقع المدنيّة والكنسيّة، هنا وثمّة، ولكن بدا كأنّ أحدًا لا يشاء أن يسمع! طيور في غير سربها!
ما ذنب الأرثوذكس هناك إذا ما كانوا عربًا؟! أليس أنّه، في المسيح، لا عربيّ ولا يونانيّ بل المسيح هو الكلّ وفي الجميع؟! طبيعيّ أن يكون هناك عربيّ ويونانيّ وسلافيّ في الكنيسة. لا يقدر الإنسان أن يخرج من جلده! نحن نمجِّد الله، كلٌّ في لغته وأرضه وحضارته، كما فعل مَن نزل عليهم الرّوح القدس في سِفر الأعمال. ولكن أن تصبح الكنيسة مطيّة للقوميّات والعصبيّات وداعمة لها فهذا كفر! هذا ارتداد إلى وثنيّات الشّعوب القديمة! أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله! إذا لم يكن المسيح مَن يجمعنا فليس ما يجمعنا! وإذا لم نكن مستعدّين لأن نسوق كلّ فكر إلى طاعة المسيح فليس لنا معه نصيب! في إيماننا، إذ ذاك، إشراك به! إذ ذاك نكون على شبه قول القائل: هذا الشّعب يكرمني بشفتيه أمّا قلبه فمبتعد عنّي بعيدًا! إذ ذاك نقتل المسيح في أنفسنا وفي الآخرين وندّعي، قولاً، أنّنا نقدّم خدمة لله!
القيّمون على الكرسيّ الأورشليميّ قيّمون بالأكثر، للأسف، على الحجارة والرّماد، وعلى أنفسهم، فيما الشّعب عندهم أدنى إلى العبيد! يحتمون بالقوانين ويخالفون روحها! تجّار سلطة ومال! بماذا يختلفون، في روحهم، عن رؤساء كهنة إسرائيل الّذين تآمروا على السّيّد وسلّموه إلى الأمم ليُقتَل! أما يُسلمون خراف المسيح لذبح الإهمال؟! يتعظّمون بأثوابهم وعصيّهم وألقابهم وكلامهم الطّنّان ويشرب القطيع من دوس أقدامهم! يتاجرون بالمسيح وخرافه ولا حسّ لهم بالإيمان ولا بالأمانة!
ربّما كان بعضهم يذعن للأمر الواقع متألّمًا من وضع الأرثوذكس العرب، هناك، لكنّه لا يتحرّك أبعد من ذلك، في شيئ! الأمر ليس في يده! هكذا يشاء البطريرك وجماعته! أما يسري فيهم القول السّيِّديّ: بيتي بيت صلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص؟!
لا لسنا نؤازر الأرثوذكس العرب في الكرسيّ الأورشليميّ، لكونهم عربًا، وليس همّنا تعريب السّلطة والأماكن المقدّسة هناك! لم يمت السّيّد من أجل التّراب والحجر بل من أجل اللّحم والدّمّ! هؤلاء إخوتنا في الإيمان، أوّلاً! “أنتم هيكل الله وروح الله ساكن فيكم”! احتجاجنا لا هو على سلطة سليبة ولا على عروبة يُساء إليها ولا على ما هو مصادرة سياسيّة، ولو كنّا نمجّ الظّلم! احتجاجنا كنسيّ: على الاستخفاف، لا بل على تسييب رعاية خراف المسيح والكرازة بإنجيل الخلاص، “إرعَ خرافي!”، كائنة ما كانت الهويّة الحضاريّة للقطيع! حالة اللاّحسّ واللاّمبالاة، في العالم الأرثوذكسيّ، لما يحدث في الكرسيّ الأورشليميّ، مذهلة! ليس مَن يحرِّك ساكنًا، لا هنا ولا هناك!
كأنّ الأمر لا يعنينا! عجيب! أبسط تعاليم آبائنا القدّيسين أنّ استقامة الرّأي، حيثما كانت، تعنينا وتعنينا مباشرة! الأسقف، مثلاً، هو أسقف الكنيسة الجامعة المقدّسة الرّسوليّة في كلّ مكان، لا فقط في النّاحية المسقّف هو عليها! طبعًا لا أحد يتدخّل في كيفيّة تسيير أسقف أمور أسقفيّته، طالما كانت الأمور مضبوطة باستقامة الرّأي والشّرع الكنسيّ؛ ولكن ما إن يشرد أحد عن الإيمان القويم والقوانين الكنسيّة حتّى يصير كلّ أسقف أرثوذكسيّ، حيثما وُجد، لا فقط معنيًّا بما يجري من مخالفة، لتقويمها، بل مطالَبًا بذلك، بالأَولى، وأُشدِّد على لفظة “مُطالَب”!
أخْذُ الأمور بما يُعتبر “سياسة كنسيّة”، وكأنّ الأمر مستقلٌّ عن الفضل والفضيلة، كفرٌ وخيانة! الكراسي المعتبرة “يونانيّة” تغضّ الطّرف عمّا يجري من “مجازر روحيّة” في الكرسيّ الأورشليميّ حفظًا لوحدة الصّفّ فيما بينها، وكأنّها أحزاب من هذا الدّهر! هم أنفسهم، كلّ على حدة، يعلمون أنّ ما يجري في الكرسيّ الأورشليميّ غير مقبول، ويقولون ذلك في مجتمعاتهم المغلقة، ولكنّهم لا يجاهرون به! عمليًّا، يؤثرون لُحمة عصبيّتهم على لُحمة كنيسة المسيح! أيّ تصرّف هو هذا؟! أليس رياءً! أمؤتمنون نحن على قوميّاتنا وعصبيّاتنا أم على كنيسة المسيح؟! حالة اللاّحسّ، في هذا الشّأن، لا شكّ رهيبة وقهّارة! وهذا غير مقتصر على الفلك اليونانيّ بل يتجاوزه، بكلّ أسف، إلى كلّ فلك: السّلافيّ والأنطاكيّ وسواهما! كم من كنيسة للمسيح، هنا وثمّة، مقموعة بسبب التّجاذبات القوميّة والعصبيّة والسّياسيّة والقبليّة للمجموعات والرّئاسات الكنسيّة! ليس الهمّ رعاية الكنيسة بقدر ما هو مَن يبسط سلطته، باسم الأرثوذكسيّة(!)، على ماذا وعلى مَن، ومَن يحصِّل مكاسب مادّيّة ومعنويّة من تسلّطه على الكنيسة هنا أو هناك!
أحطُّ الأمثلة لاستغلال الكنيسة ورعاية المؤمنين والكرازة بالإنجيل، في هذا السّياق، وضعُ المهاجر، لا سيّما الأبرشيّات الأرثوذكسيّة في أميركا الشّماليّة! كلّ اللاّهوت الكنائسانيّ أطحناه لتبقى أيدي الكنائس المسمّاة “الكنائس الأمّ” قابضة على الكنيسة هناك! نتعلّل بعلل الخطايا ولا نبالي! ينتظرون المجمع المسكونيّ الأرثوذكسيّ العتيد يقولون؟! هذا لا يمكن أن يأتي بحلّ لأنّ أجواءه أجواء مَن سيسيطر على ماذا، على حساب الشّعب المؤمن؟ الكلّ يتعاطى المهاجر، بكلّ اسف، كبقرة حلوب! آخر همّنا الكنيسة! همّنا ماذا يكون لنا! لذا لا خير يُرتجى من حلّ يمكن أن يأتي، في المدى المنظور، من خارج مَن يُعانون! عندما سألني زائرنا: ماذا بإمكاننا أن نعمل، نحن الرّعيّة الأرثوذكسيّة العربيّة، في الكرسيّ الأورشليميّ؟ قلت له: إذا كنتم تتوقّعون أن يأتيكم الحلّ من الخارج فإنّكم تُخطئون، لأنّه لن يأتيكم شيء!
الغيارى للمسيح في المحبّة والصّلاح والاتّضاع بينكم يأخذون مصيرهم ومصير كنيستهم بأيديهم! طالِبوا، وقد طالبتم! أنذِروا وقد أنذرتم! ثمّ، أخيرًا، إن لم يُعِر القيِّمون على الكرسيّ الأورشليميّ مطالبكم اهتمامًا، بعد مرّة واثنتين وثلاث، فليكونوا عندكم كالوثنيّ والعشّار! يكونون هم السّاقطين وتكونون أنتم طلاّب الحقّ إن عرفتم أن تحفظوا أنفسكم في الأمانة للرّبّ الإله! دعوهم يرتعون في حفرة خطاياهم إن أصرّوا على عماهم، أمّا أنتم فليكن لكم نور المسيح قِبلة، وسيروا إليه! حتّى لو تمسّكوا بالأوقاف اتركوهم واتركوا لهم الأوقاف! يكفيكم مسيحكم وقفًا وروحه ميراثًا ومحبّتهُ تربة!
الأمر نفسه يُقال عن كلّ الكنائس المقموعة أو الّتي في المهاجر! هي الّتي تأخذ المسيح الحقّ بيدها، طالما ليس أحد، بكلّ أسف، في هذا الزّمن الرّديء، يعطيها ما للمسيح فيها أو يغار عليها في الرّوح! لم تنل الكنيسة، لا في أنطاكية ولا في روسيا ولا في بلاد البلقان ولا في أيّ مكان آخر، ما لها إلاّ عنوة، ولا جرى الاعتراف بها وقبولها ككنيسة شقيقة إلاّ بعد قطيعة! هذا مرض السّلطة!
على الكنائس في أورشليم والإسكندريّة والمهاجر، بعامّة، حتّى لا نتكلّم على سواها، أن تعرف وتتصرّف وفق ما ينفعها في المسيح! فمَن آزركم ينفع نفسه، ومَن قاومكم وأراد أن يشدّكم إلى الأركان الواهية لهذا الدّهر فقاوموه ولا تبالوا، ولكن في الحقّ، عساه يعود إلى رشده، لأنّ الله معكم وروح الرّبّ يؤازركم! لم نولد في المسيح للخنوع ولا لمكاسب ههنا! تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم! أنا ميراثكم، يقول الرّبّ!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
13 تموز 2014