أين هو الله؟ يتساءل معظم الناس. أين هو ممّا يجري في بلادنا وفي العالم من مآس وحروب ومجازر؟ أين هو من قتل الأطفال وتيتيمهم وتشريدهم وتجويعهم؟ لماذا يصمت عن الشرّ، وبخاصة عن الشرّ الذي يُرتكب باسمه؟ لماذا لا يقضي على الأشرار قبل استفحال شرّهم؟ هل صمته يعني رضاه عمّا يحدث ويصير؟
عندما خلق الله الإنسان، خلقه “على صورته ومثاله”. وقد أجمع التراث المسيحي على القول إن القسم الأّول من العبارة “على صورته” يشير إلى ان الله خلق الإنسان “حراً، عاقلاً، ناطقاً”، أما تتمة العبارة “ومثاله” فتعني دعوة الإنسان إلى تحقيق الصورة بصنعه الفضائل الإلهية بإرادته الحرّة.
وفي هذا السياق يقول القديس يوحنا الدمشقي، منصور بن سرجون (+750): “إن الفضيلة قد زُرعت في طبيعتنا من الله الذي هو بدء كلّ صلاح. إذًا، إذا ثبتنا في ما هو بحسب طبيعتنا نكون في الفضيلة، وإذا حدنا عمّا هو بحسب طبيعتنا – أي عن الفضيلة – نؤول إلى ما هو ضد طبيعتنا ونصير في الرذيلة”. أما أوريجنّس الإسكندري (+235) فيعتبر أن الإنسان اتّخذ جلال “الصورة” وبهاءها في الخلق، أما الكمال الذي هو المثال فيناله بالجهاد والمثابرة. فالإنسان أوتي إمكان الكمال في البدء، وعليه أن يبلغه بإتمامه أعمال الفضيلة والبر.
إذا كان الله قد خلق الإنسان صالحاً، فمن أين الشر؟ على هذا يجيب الدمشقي: “إنّ الشرّ إنْ هو إلا فقدان الخير وبعاد عمّا هو بمقتضى الطبيعة إلى ما هو ضدّ الطبيعة. فليس من شرّ هو بمقتضى الطبيعة، لأنّ كلّ ما صنعه الله حسن جداً. وكل مَن ينفصل برضاه عمّا عو بمقتضى الطبيعة ويدخل في ما هو ضدّ الطبيعة، يصير في الشرّ (…) فليس الشرّ جوهرًا ما، ولا أحد خواصّ الجوهر. إنْ هو إلاّ عرَضٌ، أي تحويل ممّا هو بمقتضى الطبيعة إلى ما هو ضدّ الطبيعة”.
إذًا، لماذا لا يمنع الله الشرّ عبر قضائه على الأشرار أو عدم السماح بولادتهم أصلاً؟ يجيب الدمشقي: “إذا كان الذين سيوجدون بسبب صلاحه تعالى يمنعهم عن الوجود أنّهم سيصيرون أشراراً برضاهم، فيكون الشرّ قد غلب صلاح الله”. الله يريد من الإنسان أن يبقى صالحًا كما خلقه، وأن يغلب الشرّ بعدم انسياقه بحرّيّته إلى الانفصال عن الخير الأسمى، عن الله.
بين أن يكون الإنسان صالحاً من دون حرّيّة إرادة، أو أن يكون صالحا يتميّز بحرية الإرادة التي قد تدفعه إلى صنع الشرّ، اختار الله أن يخلق الإنسان حراً. والله ما زال ينتظر من الإنسان، ومن دون يأس، أن يستعمل حريته في سبيل صنع الخير. هو العالم بكل شيء قبل حدوثه، لو شاء منع وجود الأشرار على وجه الأرض لمنع وجودنا كلّنا، من آدم إلى الساعين اليوم على وجه البسيطة.
وتالياً، لما كان خلق الإنسان أصلاً.
يشبّه القدّيس الدمشقيّ الإنسان في علاقته مع الله بذاك “الذي استمدّ من مَلكه ثروةً وسلطة، ثمّ استقلّ بسلطته تجاه المحسن إليه. فمتى قبض سيّده عليه سوف يعاقبه عقابًا يستحقّه إذا ما استمرّ ثابتًا حتّى النهاية على عصيانه وغيّه”.
ما زال الله يعوّل على صلاح الإنسان وتوبته كي يُقضى على الشرّ في كلّ مكان وزمان.
جريدة النهار
16 تموز 2014