خارطة أنطاكيّة جديدة، تساؤلات ورجاء! – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday July 21, 2014 139

تساؤلات تطرحها بادرةُ سياسةٍ كنسيّة جديدة أخذت معالمها تظهر مذ حلَّ عهد غبطة البطريرك يوحنّا العاشر: إعادة النّظر في رسم الخارطة الأبرشانيّة الأنطاكيّة، في الأرض التراثيّة والتّوابع والمهاجر. بالأمس، طالعَنا المجمعُ المقدّس، في دورته العاديّة (حزيران/تمّوز 2014) بقرار قضى باقتصار أبرشيّة بغداد وتوابعها، وكانت تشمل سائر الخليج العربيّ، في السّابق، على بغداد والكويت وعُمان والسّعوديّة واليمن، وتسمية كلّ من البحرين، وقطر، والإمارات العربيّة معتمديّة، أي خلق ثلاث معتمديّات جديدة. قبل ذلك، في السّنة الفائتة، جرى تقسيم أوروبا الغربيّة، وكان عليها، سنتذاك، متروبوليت واحد، إلى ثلاث أبرشيّات انتُخب متروبوليتان على اثنتين منها، واعتُبر غبطتُه على الثّالثة مؤقّتًا، ما هو غير مسبوق في الممارسة الكنسيّة. في العادة، يصار إلى تسمية معتمَد بطريركيّ على رقعة جغرافيّة كنسيّة جديدة، إلى أن يُصار إلى انتخاب أسقف عليها، إذا ما كانت قد تأبرشت، بقرار مجمعيّ، من حيث إنّ الرّاعي الواحد مرتبط بشعب واحد في بقعة واحدة، ولا يكون غبطته أو أيّ أسقف آخر، راعيًا لغير أسقفيّته. المعتمديّات ليست من توابع أبرشيّة البطريرك، ولو ارتبط المتعمَد البطريركيّ، كشخص، بالبطريرك، بتكليف من المجمع المقدّس!

abounatouma

   جملة تساؤلات ترد إثر الحَدَثين النّاجزَين على امتداد السّنة الفائتة:

   1)  في شأن بغداد والكويت وتوابعهما، هل لقسمة الأبرشيّة، الضّعيفة أصلاً، منفعة في رعاية أفضل لشعب أكثره مهاجر، أم ثمّة غاية أخرى لها؟

   2) بغداد، أصلاً، كان وجودنا الأنطاكيّ فيها قليلاً، والآن قلّ عن القليل، في خضمّ أحداث العراق. تبقى الكويت ذات وزن. عُمان والسّعوديّة واليمن فيها، ربّما، قلّة من الأنطاكيّين، لكنّها لا تُعتبر ذات شأن، عددًا، وليس جمعُها ميسورًا! تبقى الأنظار متّجهة شطر الإمارات. البحرين ضعيفة. قطر تعاني المشكلة المعروفة، ولا يبدو أنّ تغييرًا فيها، باتّجاه أنطاكية، بادٍ في الأفق، ولذا يُسأل: أما يكفيها، رعائيًّا، أن تستمرّ أبرشيّةً واحدة، طالما ارتأى المجمع أن يكون لها كيان أبرشيّة في وقت من الأوقات؟ لِمَ تشحيلها ثمّ خلق معتمديّات إليها؟ ثمّ لِمَ ثلاث؟ لِمَ لا اثنتان أو واحدة؟ ليس منطق رسم الخارطة جديدًا، هناك، واضحًا، لذا يبقى مثار تسآل!

   3) السّؤال مطروح: هل دُرِس الموضوع دراسة وافية أم جرى إقراره ارتجالاً؟ عفوًا للتّعبير! ثمّة شكّ وعدم ارتياح ينتابان النّاظر إلى ما جرى! يخشى المرء أن تكون القرارات المجمعيّة يطغاها، أحيانًا، ما يناسب رأي هذا أو ذاك من أعضاء المجمع أكثر ممّا يوافق طبيعة القضايا المطروحة بحدّ ذاتها! لا أدلّ على ذلك من انتخاب اثني عشر أسقفًا في أقل من أربع وعشرين ساعة، منذ بعض الوقت، ما يجعل المزاج المجمعيّ يتحكّم بالممارسة والقضايا الكنسيّة من دون القوانين والأصول والحاجات كما تمثل على الأرض ومن دون هاجس استطلاعها بتأنٍ!

   4) في شأن أوروبا الغربيّة، الّتي يوجد شعبنا فيها مبعثرًا، وربّما غير محصى، ولو تقريبيًّا، على مسافات شاسعة، أحيانًا، بين الرّعيّة والأخرى، أو التّجمّع والآخر، وعلى صعوبة ليست بقليلة في بناء كيانات أبرشانيّة، اقتصاديّة واجتماعيّة وخلفانيّة (من خلفيّة)، أقول، في شأن أوروبا الغربيّة، هل تقسيمها يساعد في جمع شملها أم بعثرتها، في شدّ أزرها أم إيهانها، في إرساء رُبُطها، فيما بينها، أم إرهاقها وإلقائها في الإحباط؟ طبعًا، النّهضة منوطة بالأشخاص، ما إذا كانوا محبّين لله بفيض، غيارى على الكنيسة، ذوي مواهب رسوليّة فذّة. هذا أوّلاً. لكن السّؤال ينطرح: هل العمل الرّعائيّ الإرساليّ، إداريًّا، يبدأ بالتّصميم الأشمل، ثمّ تعبّئ فيه البنيانَ بالعناصر الّتي استبقتَ الظّنّ أنّها مكوِّنة له، أم العكس هو المسار الواقعيّ؟ تهتمّ ببنيان الرّعيّة، ثمّ الرّعيّة إلى الرّعيّة، وهكذا إلى أن ترى، ربّما، اجتماع الرّعايا يأتي بك إلى بنية أوسع إداريّة واقعيّة! هل تحديد الجغرافيا الإداريّة سابقٌ، أو، أقلّه، مساعد، أو لازم لمشروع رعائيّ أصيل هناك؟ أطبيعة البلاد تسمح وتوزّعُ المؤمنين فيها؟ الأمر، في كلّ حال، بحاجة إلى درس وإمعان نظر، في ضوء الموفور، رعاة ورعايا! أما يأتي الحصان أوّلاً، ثمّ، بعد ذلك، العربة، بالشّكل والقَدْر المؤاتيَين للحصان، ثمّ للحاجات المرتبطة بما يرتئيه القيِّم على الحصان؟! هل القول بثلاث أبرشيّات، هناك، أوفق من واحدة و/أو بعض المعتمديّات؟ هل المعايير واضحة ومحدّدة أم ثمّة حجّة تأتي من الغيب؟ لماذا، بغداديًا، تستحيل الأبرشيّة الواحدة، واحدة وثلاث معتمديّات، فيما تستحيل الواحدة، أوروبيًّا، ثلاث أبرشيّات؟

   5) ثمّ ماذا عن الآتي؟ ثمّة حاجة شاملة إلى رسم خارطة أكثر موافقة للواقع والمستلزمات الرّعائيّة! هذا لا شكّ فيه! الهوّة ما بين الأبرشيّات ذات اليسر والأبرشيّات ذات العسر، ينبغي ردمها، جغرافيًّا، حيثما أمكن! وكذا توزيع الشّعب في أبرشيّات قابلة للرّعاية ولرعاية أفضل. دمج بعض الأبرشيّات التّقليديّة ببعضها الآخر، وخلق أبرشيّات جديدة منها، على قياس الواقع والتّحرّك السّكّانيّ، الحاصل والمستمرّ والمتوقّع، أمر لا بدّ منه لرعاية أفضل. هذا ينبغي درسه، بتأنٍ، على مستوى الكرسيّ الأنطاكيّ، ككلّ، سلفًا! الاعتباطيّة، في هذا الشّأن، تفضي إلى ارتدادات مؤذية! خير لنا أن نُبقي الأمور على حالها من أن نكون انتقائيّين، مزاجيًّا، لأسباب لا تمتّ إلى أداء رعائيّ كنسيّ أفضل، بل إلى تصوّرات ذاتيّة وإلى مرام شخصيّة! أنفصّل استعداداتنا على قياس حاجة رعايانا، أم نفصّل رعايانا على قياس أمداء أهوائنا؟!

   6) في أيّ مشروع جديد لخارطة عامّة جديدة، نحتاج، من ناحية، إلى حسّ رعائيّ مرهف، وإلى استعادة المقاربة الكنائسانيّة اللاّهوتيّة القويمة حتّى لا نوجَد تراكميِّين استنسابيِّين. خلقُ أبرشيّات جديدة أمر مفيد ضمن واقع ومستلزمات محدّدة. ولكن، في حالات أخرى، نحتاج إلى استعادة تدبير المجامع المحلّيّة لئلاّ نقع في الشّرذمة. هذا ضروريّ في أبرشيّات كدمشق وأميركا الشّماليّة وجبل لبنان وعكّار، ما يفرض استعادة تدبير الأسقفيّة المرتبطة بالشّعب لا بالمقاربة الإداريّة، والخروج من ممارسة الأسقفيّة المساعدة للبطريرك أو للمتروبوليت، هنا وثمّة. علينا أن نعترف أنّ الإصرار على ممارسة الأسقف المساعد تجعله، ضمنًا، أداة في يد البطريرك أو المتروبوليت، وتضعف علاقته بالشّعب المؤمن ومن ثمّ فعاليته كأسقف. المرء يتساءل: لِمَ التّمسّك بسلطة الشّخص الواحد، ونحن، تحديدًا، جماعة شورى؟ مَن قال إنّه إذا كانت الأمور في يد شخص البطريرك أو المتروبوليت فإنّ هذا يؤمّن وحدة الأبرشيّة، هنا وثمّة، بشكل أفضل؟ الوحدة، عندنا، لا تأتي من سلطة فردانيّة بل هي وحدة تكامليّة في الإيمان الفاعل بالمحبّة! لا حقّ لنا في أن نتكلّم على الشّورى ونسلك في الفردانيّة السّلطويّة! في الشّورى تباين لا بدّ منه، لكنّه تباين صحّيّ! مَن قال إنّ في التّباين انقسامًا؟ بالعكس، التّباين أساسيّ للتّكامل عند مَن يؤمنون بالرّوح والحقّ ويُحبّون مسيح الرّبّ؟ خطر الانقسام، من جرّاء التّباين، يُداهم، بالأحرى، مَن كان سلطويّ الميل! بالعكس، السّلطويّة، روحيًّا وكنسيًّا، هي مدى ومجال للشّرذمة ولو بدت، في الظّاهر، صائنة للوحدة! فردانيّتنا، كنسيًّا، غير مبرّرة! الوحدة الدّهريّة ليست وحدة كنسيّة، لذا لا سلطة للواحد عندنا وفيما بيننا! السّيّد الأوحد في الكنيسة هو الرّبّ يسوع المسيح، ونحن فقط بانشدادنا إليه، ومن ثمّ بانشدادنا أحدنا إلى الآخر، والجماعة إلى الأخرى، نصير شركاء في الواحد، في الرّوح والحقّ! هذا يستلزم، طبعًا، تعبًا وتواضعًا، ولكن لا بديل عنه! وحدة هذا الدّهر قمعيّة ولو جاءت مهذّبة، أحيانًا، فيما، وحدها، وحدة الدّهر الآتي، ههنا، محبِّيّة أصيلة!

   ما نشتهيه، في الآتي، رجاؤنا أن يكون موزونًا بميزان المحبّة في الرّوح والحقّ! انتظارُ أن ينزل علينا تدبيرٌ أو آخر بغتة، كما في مظلّة، ما يناسب هذا أو ذاك من الأحبار من خطط أو تصوّرات، سوف يكون، في نظرنا، مسيئًا لشعب الله ومخالفًا للاهوت شعب الله، في آن معًا! وهذا، في ظنّنا، يلقينا في بلبال ويُعثر النّهضة الكنسيّة الرّعائيّة، عندنا، في المرحلة الآتية، أيّما إعثار!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
20 تموز 2014

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share