“واحِدَة، جامِعَة، مُقَدَّسَة ورسولِيَّة”، هي الصّفات الّتي أُعْطِيَت للكنيسة في دستورنا الإيمانيّ. هي صفات تخصّ، بدءًا، كلّ جماعةٍ تَحَلَّقَتْ حول أسقفها في القدّاس ودرست الكلمة وبشَّرَت. هي أوّلًا صفات الكنيسة المحلّيّة، أي الجماعة المؤمِنَة المتواجِدَة في نطاقٍ جغرافيٍّ محدَّد، والَّتي تشهَدُ لإيمانِها وتنطلق من محلِّيَّتها لتنقل البشارة إلى العالم. إنّ الصّفاتِ الّتي أُطلِقَت على الكنيسة في دستور الإيمان لا تأخذ بُعْدَها الوجوديّ إلّا في وظيفتها التّبشيريّة. إنّ الكنائس المحلّيّة القديمة، وأنطاكيا واحدة منها، لم تعتَبِر التّبشير وظيفة كَمَالِيَّة، أداةَ توسُّع لسلطتها ونفوذها، بل طاعةً لقول الرّبّ: “اِذهبوا وتلمِذُوا كلَّ الأمم”، حتّى يتجسّد الرّبّ في كلّ لغة وكلّ حضارة وكلّ فكر وكلّ مَحَلَّة. كلّ عملٍ تبشيريّ تحكمه خلفيَّةٌ سُلطويّة توسّعيّةٌ أدّى إلى خراب الكنيسة وانشقاقها.
لم تسعَ كنيسةٌ محلّيّةٌ أصيلةٌ في تاريخها الكنسيّ أن تتحوّل، من خلال تبشيرها، إلى كنيسة “عالميّة”(!) (Universelle)، بل أرادت أن تكون “جامعة” (Catholique)، أن تكون أمًّا لكنائس محلّيّةٍ أُخرى. الأمّ تلد لتربّي وتنمّي وتُنضِج أولادًا يستقلّون عنها ويتمايزون. تمايزُهم هذا لا ينفي بنوّتهم. أوَليْس هذا ما قامت به كنيسة القسطنطينيّة بشخص القدّيسَين كيريللس وميثوذيوس في تبشيرهما للبلغار والصّرب والسّلاف.
في الإكليزيولوجيا (علم الكنيسة) الأرثوذكسيّة لا يصحّ الكلام عن كنيسة “عالمية”(!) بل عن كنيسة “محليّة جامِعَة”. الكنيسة المحلّيّة ليست وجهًا مغايِرًا للكنيسة الجامِعَة، بل هي الجامِعَة بامتياز. في النّصوص القديمة لم تُسْتَعْمَل عبارة “كنيسة جامعة” بمعنى كَمّيّ أو للدّلالة على امتدادٍ جغرافيّ للكنيسة، بل للدّلالة على استقامة الإيمان والتّعليم ونزاهتهما، إلى أمانة الكنيسة للتّسليم الأوّل في مقابل التّعاليم المنحرِفَة الناشئة والمغايِرَة لما سُلِّمَ لنا من الرّسل، والّتي فَصَلَتْ جماعةً من المؤمنين عن جامعيّة التّعليم الواحِد. إنّ كنيسة المسيح لم تكن، مطلقًا، أقلّ جامعِيَّة ممّا هي عليه اليوم، عندما كانت محصورة بحُفنة من البشر يوم العنصرة، أو، لاحقًا، عندما كانت جُزُرًا صغيرة في بحرٍ واسعٍ من الأمم الوثنيّة.
في الإكليزيولوجيا الأرثوذكسيّة كلامٌ عن كنيسة محلّيّة واحدة، جامعة، مقدَّسة ورسوليّة تكون مع شقيقاتها كنيسةً واحدة، جامعة، مقدَّسة ورسوليّة، في وحدة إيمان تحفظ فرادة كلِّ عضو فيها وخصوصيّته. من أوجه خصوصيّات الكنيسة المحلّيّة هي اللّيتورجيا. اليوم فُقِدَتْ هذه الخصوصيّة في الكنائس الأرثوذكسيّة منذ أن سيطر النّمط الليتورجيّ القسطنطينيّ عليها. لا يعكس تنوّعُ الأنماط اللّيتورجيّة تباينًا في الإيمان أو تراخيًا في أواصر الوحدة والجامِعِيَّة بين الكنائس المحلّيّة. هل كانت الكنائس الأرثوذكسيّة، بأنماطها اللّيتورجيّة المتنوِّعَة، في القرون الأولى، أقلّ وحدةً من الكنائس الأرثوذكسيّة بنمطها اللّيتورجيّ الواحِد اليوم؟.
كنيسةُ أنطاكيا كنيسةٌ محلّيّة كما سائر الكنائس، وهي أمٌّ لكنائس محلّيّةٍ أُخرى ولِمَا يُسَمَّى اليوم بالشَّتَات الأنطاكيّ. وهذه هي حال سائر الكنائس الأُخرى. ما هو مُلِحٌّ اليوم أن تترسّخ أنطاكيا في محلِّيَّتها لا أن تلتهي بعالميّةٍ وهميَّة. أن تعِيَ، فِعْلًا، هويَّتها وفرادتها، وكلتاهما لا يُفَتَّشُ عنهما في الماضي وحسب، ولا تُعْطَيَان لنا من خزنة الماضي، بل علينا أن نكتشفهما ضمن سيرورةِ تراكُمٍ ونُشُوءٍ مُسْتَمِرَّيْن في الجغرافيا الواحِدَة والزّمن الواحِد.
فرادة أنطاكيا، اليوم، أن تكون السّبّاقة في دعوة الشّتات الأرثوذكسيّ، بكلّ ألوانه القوميّة والحضاريّة، إلى الإنصهار ضمن كنيسة محلّيّة واحدة، عمادها الجغرافيا الواحدة والإيمان الواحد. كلّ جماعة كنسيّة تجمعها الجغرافيا والزّمان والإيمان ويطغى انتماؤها القوميّ أو اللّغويّ على انتمائها الكنسيّ وتعجز عن الإندراج في كنيسة محلّيّة واحدة هي في أزمة وجودٍ حادّة تطال وحدتها، رسوليّتها وجامعيّتها.
نشرة الكرمة
20 تمُّوز 2014