في الصبر

mjoa Friday August 1, 2014 219

“بين القداسة والسخرية تقوم فضيلة الصبر الإلهيّة”
(الأب ألكسندر شميمن)

عندما قال الرسول: “الشدّة تنشئ الصبر” (رومية 5: 3)، لم يقصد أنّ الشدّة، بحدّ ذاتها، تمدّنا بالفضائل النافعة. فالمنفعة، التي ما بعدها منفعة، هي أن نؤمن إيمانًا مطلقًا بأنّ الربّ، الذي أنعم علينا بأن نقيم فيه حاضرًا وأبدًا، هو الذي يحمينا كلّما تربّصت شرور العالم بنا، ورمتنا في شدائد صعبة.
ليس من المعقول أن تمرّ حياة الإنسان، أيّ إنسان، من دون شدّة. وأنت، مسيحيًّا، دعوتك الدائمة أن تؤمن بأنّ الله، الذي فداك بدم مسيحه، لم ينقطع فعله في الأرض. في أوان الفرح، ربّما ننسى الله. ربّما نضعه جانبًا. ربّما نرميه، ونهمله كلّيًّا. فوضعنا مريح. والراحة قد تأسر الذين يستريحون إلى أوضاع يحسبونها مريحة. أمّا في أوان الشدائد، فقد نذكر الله. وقد نذكره بحرارةٍ لا مثيل لها. وهذا الذكر لا يعيبنا بعد لهوٍ. فالعيب أن نبقى، مهملين أسرى حياة لهو لا ينفعنا بشيء. هذا لا يعني أنّ الله يستعمل أوان الضيق، ليذكّرنا بأنّه يحبّنا، بل أنّ دعوتنا، في هذا العالم، أن نحيا على الإيمان بخلاص الله الذي لا ينفكّ يمطرنا بفضائله المنقذة. بهذا المعنى، الصبر غيث السماء متى رأينا أنّ جفاف الأرض قد أخذ يلفّنا.

ممّا يعلّمنا أن نصبر على ما يعترينا من ألم وحزن، أن نطيع الله في حياتَنا. ففي الواقع، لا يستطيع إنسان أن يصبر على أيّ شيء، إن لم تعمّر طاعة الله قلبه. ما من فضيلة أعلى من الطاعة تؤهّلنا لأن نثق بأنّ الله يعرف ما يصيبنا، وبأنّه كفيل بنا. فالطاعة ابنة الثقة التي يقوم عليها التوكّل. ويعرف مَن يعرف أنّ الطاعة، لا سيّما في تراثنا النسكيّ، تفوق التوبة مكانةً. وهذا بيّنه القدّيس يوحنّا السلّميّ في تعليقه الفذّ على تراكض التلميذين، بطرس ويوحنّا، إلى القبر، بعد أن وصل إليهما خبر أنّ القبر، الذي نزل فيه يسوع، قد أزيل عنه حجرُهُ. فالرواية الإنجيليّة تخبر أنّ “التلميذ الآخر الذي يحبّه يسوع” (أي يوحنّا) هو الذي وصل إلى القبر أوّلاً (يوحنّا 20: 4-8). وأمّا السلّميّ، فرأى، في هذا الوصول، أنْ: “قد تقدّمت الطاعةُ التوبة” التي يمثّلها بطرس في هذه الرواية (المقالة الخامسة). لم يقصد السلّميّ أنّ التوبة أمر ثانويّ في مسرى “حياة التقوى في المسيح يسوع”. فأن تتوب، لهو أن تسترجع الطاعة، وتبقى عليها اليوم وغدًا. إن عدت، تعود لا تخاف شيئًا. وهذا، إذا رجعنا إلى قول الرسول المسطّر أعلاه، يعني أنّ مَن يحيا على الطاعة يتعوّد أن يصبر بسهولة، أي يعطيه الله ان يدرك أنّه إله لا يبطل عمله المحيي.

saber

ما من أحد منطقيّ يقدر على أن ينسى أنّ الشدّة صعبة على الناس، معظم الناس. وغالبًا ما ترميهم في أسئلة مُرّة، تتعب الأفواه الراضية، لم يأنف أبرار التاريخ من ذكرها، سرًّا أو علنًا. فَلِمَ أصابني ما أصابني؟ هل أستحقّه؟ أين الله الذي أحبّه؟ لِمَ يتركني؟ ولماذا لا ينقذني الساعةَ؟ ولماذا، ولماذا، ومئة لماذا ولماذا. وإن كان من الشرعيّ أن يطرح المؤمن أسئلته على الله في وقت مقبول وغير مقبول، فمن الواجب أن يبقى يذكر أنّ الله، الذي يحبّه، لا ينفكّ يعتني به وبأموره. غاية في السذاجة أن نعتقد أنّ مَن مات عنّا صلبًا يعوزه أن يقدّم لنا إثباتًا آخر يؤكّد أنّه يحبّنا. في العالم، سيكون لنا ضيقات كثيرة. فنحن في العالم، وإن كنّا لسنا منه. ولكنّنا، إن كنّا نثق بالله الحيّ فعلاً، فيعطينا أن نبقى قادرين على أن نغلب العالم دائمًا.
كثيرًا ما أخذتني القولة: “بصبركم تقتنون أنفسكم” (لوقا 21: 19). في العادة، يعتقد الإنسان أنّ فضيلة الصبر تختصّ بعلاقته بأترابه فحسب، ولا سيّما مَن كان منهم مزعجًا، مَن إزعاجه لا يُحتَمل. وهذا صحيح، طبعًا. ولكنّ الربّ، بقوله المذكور، يريدنا، أيضًا، أن نواجه المشاكل، التي تعصف بنا وحدنا (أكانت مرضًا أم تهجيرًا أم أيّ ضيق لعين آخر)، بصبر جميل ينقذنا، ويجدّدنا، ويعمّر حياتنا بالله الذي لا ينقطع فعله. فالصبر، بهذا المعنى الذي يعنينا وحدنا، يدلّ على أنّنا نؤمن بأنّ الله، مخلّص العالم، هو مخلّصنا الآن وأبدًا. الصبر هو الفضيلة التي تؤكّد أنّنا مشدودون إلى معونة السماء. به نقتني أنفسنا التي اقتناها الله ببذله دم وحيده حبًّا بنا. به نقتنيها كمَن تنهمر عليهم بركات إله “اليوم علّق على خشبة”. الفضيلة تتجاوز صعوبات الزمان الذي نحيا فيه، وتقيمنا في زمان المسيح الذي لا يحتجز فداءه زمان. كلّ الزمان وكلّ المكان اختصرهما الربّ يوم علّق على خشبة صليبه. بصبركم، أي بوعيكم أنّني معكم لا أترككم. بصبركم، أي بإيمانكم أنّني تنازلت إليكم، لأرفعكم إليّ. بصبركم، أي بفهمكم أنّني أحمل معكم مصاعبكم كلّها. وبصبركم، أي بقبولكم أنّني ربّ الحلول تربحون نفوسكم التي شأني أن أريحها.
أن نتحمّل الشدّة بصبر، لهو أن نطمئنّ إلى الله، أو أن نرسّخ اعتقادنا بأنّه يطمئنّ إلينا بـ”رحمته الواسعة”. فالصبر، بمعناه العميق، هو أن يسكن أعماقنا، دائمًا، أنّ الله هو مَن يرحمنا كما ترحم الأمّ “ابن بطنها”، وأنّه لا ينسانا بتاتًا (إشعيا 49: 15). إنّه أن نذكر أنّه ولدنا في معموديّة نسبتنا إليه أبدًا.
يبقى أن نتعلّم أن نبقى على صبرنا في غير وقت. وإن كنّا من الذين لم يجرّبوا هذه الفضيلة مرّةً، فأن نجتهد في تعلّمنا أنّ ما لم نحاوله بعدُ قد يساعدنا على أن نفهم أنّنا نحيا لله الذي لا ينفكّ يحيينا بفضائله المنقذة.

نشرة رعيتي

3 آب 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share