هوس المال في الكنيسة! – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday August 4, 2014 189

هوس المال
في الكنيسة!.

   الملاحظ أنّ المال، كهاجس، يسطو، على المؤمنين في الكنيسة، حتّى لتلقاهم مقتنعين بأنّ النّهضة منوطَةٌ بما لديك من طاقات ماديّة تؤهِّلك للقيام بأنشطة رعائيّة عمرانيّة ثقافيّة مؤسّساتيّة تفضي إلى جمع النّاس على شتّى الاهتمامات الكنسيّة والكرازة بالكلمة فيما بينهم وإقامة الطّقوس وتوفير سائر الخدمات الإنسانيّة لهم.

   عمليًّا، كلّ من ملك عليه هاجس القنية، ولو رغب في القراءة والصّوم والصّلاة وإعطاء بعض المال للفقراء والمؤسّسات وما إلى ذلك، لا بدّ من أن يؤول حالُه إلى استخدام الله لإزكاء قنيته، لا فرق، في هذا، بين عاميّ وإكليريكيّ وراهب! القنيةُ تُرسِّخُ السّلطةَ، والسّلطةُ المجدَ الباطلَ، والمجدُ الباطل الكبرياء!

   هذا ما حدا بنا إلى كتابة هذه المقالة.

   أتحدّث في مستوى القلب، لا أحكم بحسب الظّاهر. الظّاهر، دائمًا، قابل للغشّ بيسر. حيثما حكم المالُ الكيانَ، كائنًا ما كان المبرِّر، وثمّة ألف ألف مبرِّر له في كنيسة المسيح، فإنّ في حكم المال مؤشِّرًا لانتفاء الإيمان الحيّ الحقيقيّ الفاعل بالمحبّة. فاجأني معلّم مرموق بقوله لي، ذات مرّة، عن أحد الإكليريكيّين البارزين: هذا غير مؤمن! طبعًا، إذا صَحّ قوله، هذا الإكليريكيّ قد لا يعي ما هو فيه. عدم إيمانه لا يأتي من خبث بالضّرورة، بل ربّما من جهل! يَظنّ أنّ الإيمان مردّه التّفكّر بالله، والشّعور بالإلهيّات، والكلام على الله والطّقوس! وهذا غير صحيح! الإيمان الحيّ بالرّبّ يسوع يأتي من اتّضاع القلب! كيف تعرف أن تميِّز بين الاتّضاع والاستكبار؟ ليس ما يمنع أن تتعاطى الاتّضاع تمثيلاً. الاستكبار، بيسرٍ، ولو مموّهًا، يمكن أن يكون ذئبًا في ثوب حمل. الاتّضاع، إذا ملك القلبَ بالإيمان، ورد، حسِّيًّا، تحت علامة الفقر، ثقةً بيسوع أنّه هو الغنى وأنّ كلّ عطاء مبارَك موافقٍٍ منه. قبل أن تكون القنية كمًّا، تلقاها حالة قلب. الأمران، طبعًا، مترابطان. الكمّ، إن زاد، دونما ضوابط داخليّة، يمكن أن ينفي فقر القلب أو يلغيه، والعكس، أيضًا، وارد. الأمر رهن بكيفيّة تعاطي القنية. خيارك، داخليًّا، هو بين أن تستخدم يسوع داعمًا للرّغبة في القنية فيك. وأن تجعل ما بين يديك، بالكامل، عند قدميه. ثمّة صراع! والصّراع بين سيِّدين: الله والمال! المال سيِّد يسودك بيسر لأنّ فيك، بالسّقوط، ميلاً تلقائيًّا إليه. أمّا الله فيسودك، أوّلاً، وقبل كلّ شيء، بالتّنشئة البيتيّة، وثانيًا، بالقدوة، بعامّة. لا نار فيك تأتيك من ذاتها. أنت بحاجة إلى نار إلهيّة تشتعل في غيرك، وتدخل أنت في تماس معها. إلى ذلك، علاّم القلوب أدرى بما يوافق وما لا يوافق. لذا، كانت، دائمًا، ثمّة أسباب أكبر من أن يتيسّر لك أن تفقهها في شأن تعاطي المال، في مستوى القلب.

church.money 2   أنّى يكن الأمر، فالفقر أساس الإيمان. لست بحاجة، في الإيمان، لغير الإيمان. الهمّ أن تنقل يسوع. الحاجة إلى واحد. الملكوت. شخص الرّبّ يسوع. روح الرّب. النعمة. البركة. محبّة الله. أمانتك تكفي. في الاستعمال، الإيمان والأمانة واحد. بعد ذلك، كلّ ما تطلبونه في الصّلاة مؤمنين تنالونه. إذا ما شرد قلبك إلى أي شيء، كائنًا ما كان، وكأنّك بحاجة إليه، وإلا لا تقوم لخدمتك في الكنيسة قائمة، فإنّك تكون قد تغرّبْتَ، في روحك، عن المسيح. هكذا تجري الأمور. أنت لا تحدِّد. أنت لا تقرّر. تؤمن. تثق. تسلك بالأمانة. تصلي. تعتبر نفسك كأنّك لا شيء. هو يوحي لك. يوجِّهك. يحرِّكك. تمشي على صفحة المياه. الرّوح يهديك. لا تعلم تمامًا أين سيحطّ بك الرّحال. الخطوة تتبع الخطوة. لا تسير وفق خطّة تضعها. تجعل نفسك بين يديه. كلّ شيء ينجلي تدريجًا. قلبك يقودك. كلّ ما تحتاج إليه يأتيك في أوانه. تفعل ما تفعل وكأنّك لست أنت مَن يفعل. تقيم في العَجَب. ما يحدث لا تتوقّعه سلفًا. يصير كلّ شيء جديدًا. تَقدّم إلى العمق وألقِِ الشّبكة. تقتنع، لا تقتنع، لا يهمّ. على كلمتك، في قلبي، أُلقي شبكتي؛ ثمّ قليلاً، قليلاً، تتّضح الصّورة. لك مساهمتك؟ بكلّ تأكيد! لكنّ ربّك المبادر. يأخذ بيدك. يأخذك على كفّه. قد تنتابك مخاوف؟ لا تستسلم لها! امضِ قُدُمًا على بَرَكة الله تتبدّد مخاوفك! لا يَطلب منك شيئًا! لستُ أطلب ما لكم بل إيّاكم! أعطني قلبك يا بنيّ!

   هذه معركتك. لست في مخاطرة لأنّك لا تعمل بقوّتك. قوّتي من عند الرّبّ الّذي صنع السّماء والأرض. لا جعل رجلك تزلْ ولا نام حارسك. خارج ثقتك بربّك لست بحاجة لشيء. غناك من فوق وفقرك أقوى من كلّ ضعف.

   أمّا الّذين عينهم في مالهم، وقلبهم في قنيتهم، فلا يعرفون المعلّم. طارئين عليه وما يبالون به. عبادتهم لذاتهم. ثقتهم بأنفسهم. إلههم صنم. مسيحهم ممسوخ الوجه ولا يبالون. يبيعونك شعارات. صلاتهم طقوس جوفاء. يصفِّقون لأنفسهم. يعظّمون ذواتهم. يكفيهم من ربّهم الاسم. يقدِّمون ما لهم. تجّار هيكل. قبور مجصّصة. كنيستهم نفسانيّات. قوّتهم من مظاهرهم لذلك ليس لهم ما يقدِّمونه. تسمعهم تفرح، تعاينهم تحزن. فخرهم بأجساد النّاس. الخلاص شعار لهم. إن كان أعمى يقود أعمى يسقط كلاهما في حفرة.

   كلّ ما همّك بناؤه بالمال يسقط. البَرَكة وحدها تبني. لا بأس بالمال إن جاء من قلب خاشع متواضع. ليس المال المشكلة بل الموضع الّذي يحتلّه في نفسك. المال عوض الرّوح قالوا. ولو لم يقولوا، قلبهم في ما لهم، ويحسبون أنفسهم كلا شيء إن لم يكن لهم.

   مأساة، اليوم، أنّهم إن قالوا وإن امتنعوا، فالمال، لهم، السّيِّد. الكلمة روح، ولهم شعارات. صليب مسيحك دم ولهم زينة. المحبّة تضحية ولهم خطاب. الوصيّة حياة جديدة ولهم فكر جديد.

   الحسّ يضمر والقلب يعسو واللّسان غيًّا. لو كان لنا أن نحكم بما يجتاح الكيان لقلنا نحن بإزاء تمثيليّة!

   أعطني السّيّد… هذا الغريب! أعطني هذا الفقير! أعطني هذا الّذي لا مكان له يسند إليه رأسه! أعطني أن أسير على خُطاك، حتّى لا أموت!

   أين كان التّراث وأين صرنا؟ شيء فينا يموت كلّ اليوم ولمّا نعد نبالي! اعتدنا على اللاّحسّ حتّى صار غريبًا علينا أن نحسّ!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
3 أب 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share