يسوع الحقّ عُلِّق على صليب الباطل، فأضحى الصّليبُ عرشَ يسوع، وأمسى الباطلُ مُقامَ الحقّ! مفارقةٌ لا إنسان يَعْقِلها! ومع ذلك حدَثٌ في التّاريخ، وختمٌ جديد للكيان، وزمنٌ تجاوزيّ، وحياةٌ فائقة! حقيقة إلهيّة بشريّة! لا يعرفها إلاّ مَن يَخْبُرها!
ظاهرًا، الباطل شموليّ! لا يُرى الحقّ بالعين المجرّدة هنا، وفي هذا الزّمن، إلاّ الباطل! الحقّ المرئيّ بشريٌّ ملطّخ بالباطل، في معرض الباطل! بالخطيئة ولدتني أمّي! اعتكر القلب والتبس سواده! الحقّ، بين النّاس، أسير إنِّيتهم! الحقّ حقّ لأنّي أنا على حقّ!
ليس أحد، وما بإمكان أحد أن يكون على حقّ، لأنّ شيمة الكلِّ حبُّ الذّات! كيف تكون على حقّ وأنت في الباطل؟! وإنّما الباطل أن تكون ممتلئًا من نفسك! ساعةَ تعي وتعترف بأنّك خطئتَ، تشرع في أن تخرج من الباطل إلى الحقّ! المفتاح أن تَخرج من نفسك أوّلاً، أن تُفْرِغ نفسك من غرورك، من انتفاخك، من شعورك بالعظمة! التّغيير في القلب سبّاق! ربُّك أوّلاً! ومن ثمّ ما لربّك! متى فطنت أنّ الحقّ أثمن من حياتك، وأنّه، في العمق، حياتُك، وحياةُ الأحبّة، وغِرتَ عليه غيرة إيليّا، فإنّك، ساعتذاك، تقيم في الحقّ ويقيم الحقّ فيك!
لو كنتَ لتُنْصِفَهم لقلتَ: يمجّون الحقّ! يحكمون على الحقّ بمَن يقوله! الحُكْم لهم لا للحقّ! إن تُعْجِبْهم يقولوا فيك الحقّ، ولو كنتَ في الباطل، وإن لم تكنْ في مسراهم قالوا فيك الباطل ولو كنتَ في الحقّ! ديدنُ قلبهم الهوى، لذا لا تُرتجى للحقّ فيهم قيمةٌ! ولو سموت إلى الحقّ سماءً، اخترعوا عليك النّفاقَ أنّ في نواياك سوءًا وتغمز من قناة فلان وترمي إلى الطّعن بفلان! يكذِّبونك في ما تقول وما لا تقول، ويقوِّلونك ما لا قصد لك فيه حتّى ليصدِّقوا ما يخترعون ويقيموا فيه مُقام الحقّ، وإن لم يكن سوى إيغال في الباطل!
تقول الحقّ أو لا تقوله، هذا وجعُك! تختنق إن لم تَبُحْ بما في صدرك! وإن حبست الكلمة في ثنايا قلبك أو فجّرتها تبق في غربة! أعطني هذا الغريب!
قولك حقّ إن تكلّم ربّك فيك. وربّك لا يتكلّم إلاّ إذا سكتّ وأسكتّ كلّ ما يوحي لك فيك بأنّك تعرف الحقّ، لأنّك لا تعرف! هكذا تبدأ: غبيّ أنا ولا معرفة عندي! المأساة أنّ البشريّة غيّة مغرورة! عليك أن تصعد إلى تحت، أوّلاً، لتعي أنّك فقير وفي الشّقاء منذ حداثتك! إن لم تحبّ يستحل عليك أن تعرف شيئًا! وإن لم تتّضع أنّى لك أن تحبّ! لذا تنزل، بالتّواضع، إلى الأعماق حتّى تمسّ العدمَ فيك، اصلاً لوجودك! هذا مسنّى لك إن قرأتَ عمرك من آخره! لا حياة تتبرعم فيك إن لم تتفتّق عينُ روحك على الموت مكتنِفك! أن تخرج من أوهامك، هذا سعيُك كلّ يوم! مأساتك أنّك بِناء خيالات وترضى! القوّة فيك أن تجمح تصوّراتُك إلى ما لا حدّ له، ثمّ لا تلبث أن تلقاك خَدِرَ الرّوح، وما تبالي! هذا قدري، تقول! شدّك ربّك إلى المعالي لتصير إلهًا وتكتفي من الوجود بأن تكون ملهاة عبث! ترتحل وكأنّك لم تأتِ!
حقّك أنا، قال ربّك! اخسر الكلّ ولا تخسر الحقّ! حياءات، إنجازات، حضارات، اختراعات! كلّ ما بين يديك، من دون الحقّ، ملهاة! تلهو به، أو، بالأَولى، يلهو بك، ثم تعبر صفر اليدين! كلّه يبقى وراءك، بقايا ذكريات! حقّي أنت، أن أُحبّك! أن أتخطّى ذاتي، أن أنسى نفسي! أنا إليك، لست في ذاتي! أن أكتشفك، أن يأتيني الرّوح من فوق فإليك! فإن حكاك روح ربّك إليّ وحكاني فيك، يجدني الرّوح وإيّاك واحدًا، محبّة واحدة، أتجلّى فيك وأنت فيّ!
لهوتُ العمرَ، حتّى متى؟ رُدّني إليك! الكلام الفارغ ملء الأرض وكياني، فمتى أفرغ من باطلي؟! لا تصرف وجهك عنّي! افتح عينيّ عليك قبل أن أموت! شوقي إلى حقِّك يضنيني! توّبني فأتوب! ردّني إليك قبل أن تردّني إلى التّراب! تعبتُ الباطلَ والرّماد! صحراؤك لا بدّ منها قبل أن تدخلني جنّة حقِّك! لا أشاء بعد إلاّ الغربة، وعن نفسي، أوّلاً! أيّ إصلاح أروم للعالم ونفسي خربة؟! فردوس الله أحلناه قمامة كيانات النّاس! طالت غربتي على نفسي، إذ سالمت مبغضي السّلام! أما آن الأوان، بعد، للغربة عن الغربة؟!
لأنّي لا شيء لا أشاء، بعد، شيئًا! الصّحوة تدفعني إلى الزّهد! وما الزّهد إلاّ المَطَلّ على الحقّ!
أَخرج من الحبس نفسي لكي أشكر اسمك! رغبتُ أو لم أرغب ضمّني إلى حقّك! لا أشاء أن أموت في الباطل! وما أعرف أن أميّز لأنّ الخطيئة عميقة فيّ! فافتح أنت عينيّ! خذ بيدي! أحبّك يا ربّ يا قوّتي! الرّبّ ملجئي ومنقذي! لماذا تقلقينني يا نفسي! يُرمى الحقّ بحجر فيعطي أطيب الثّمر! يعرّيك ربّك ويضع عليك ثوب الأرجوان وإكليلاً من شوك ويتركك مطعونًا تنزف دمًا وماء، حتّى لا تبقى عينك في دنياك وحتّى يأتي بك إلى تلك السّانحة الّتي تصرخ فيها: “في يديك أستودع روحي”!
شهوة اشتهيت أن آكل الفصح معكم، والفصح كان روحه ولحمه، عساك تمدّ نفسك به فصحًا حبيبًا!
نجّني، اللّهمّ، من موتي، من أدراني الخفيّة! في يديك مرتجاي! فقط حرّرني من مخاوفي لكي لا أنوء تحت ثقل حقّك! أشتهي لا فقط أن أقول حقّك بل أن أكون إيّاه! وادٍ سحيقًا ألقاني، مجتمعَ انحطاطات، فقوّمني جبلاً ثابوريًّا تتجلّى عليه لكي يكون لحياتي معنى! سئمت نفسي فأشرق بنور وجهك عليّ! أعنّي لكي أُلقي بكلّ ما عدا حقّك ورائي! مللتُ الباطل فمتى أجيء وأظهر قدّام عينيك؟!
الموت عن النّفس خير من الولادة لطموحات هذا الدّهر! أتشوّف إلى ميتة في الحقّ حتّى لا أكون قد وُلدتُ عبثًا!
ما أجمل صوتكَ، إن ناداني! ساعتذاك، يكون لوجودي اكتمالُ معنى: قومي يا حبيبتي. الشّتاء مضى. الزّهور في الأرض. اليمامة في أرضنا. قومي، تعالي. أريني وجهكِ. أسمعيني صوتكِ. صوتكِ لطيف ووجهكِ جميل (نشيد الأناشيد)!
وجهك يا ربّ أنا ألتمس!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
10 أب 2014